ولد الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني سنة ٦٦١ هـ في أيام الملك الظاهر بيبرس والذي كان حاكما على مصر والشام آنذاك، وقد كان من أقوى الملوك المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي.
وقد ولد ابن تيمية -رحمه الله- بعد تدمير بغداد بخمس سنوات، ودخل التتار حلب ودمشق قبل مولده بثلاث سنوات وسمع ابن تيمية ورأى وهو صبي أنهار الدماء المسفوك المسفوح تجري حوله من كل مكان وهو ابن سبع سنين تقريبا في بلدته حران التي نشأت فيها أسرته وبيته.
وقد كانت أسرة العلامة الفقيه الحافظ ابن تيمية -رحمه الله- أسرة علم وفضل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بل كانت زعيمة للمذهب الحنبلي في تلك الديار، إذ كان جده إماما للمذهب الحنبلي في عصره.
قال الذهبي: – (قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه أن الشيخ ابن مالك كان يقول: لقد ألان الله الفقه لممجد الدين بن تيمية كما ألان الحديد لداود).
وقد درس ابن تيمية -رحمه الله- العلوم المعروفة في عصره وعني عناية خاصة باللغة العربية والنحو والصرف كما اهتم بدراسة الحساب وأبدى اهتماما خاصا بالفقه وعلم الأصول والحديث والتفسير وعلم الفرائض،
ولعل علم التفسير كان من أحب العلوم وآثرها عند ابن تيمية حتى قيل إنه كان يقرأ في الآية الواحدة نحو مائة تفسير، تأمل قوله في ذلك: –
“ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول يا معلم آدم وابراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني”.
وقد كان ابن تيمية -رحمه الله- متوقد الذكاء كثير الزكانة والفطنة سريع الفهم والاستيعاب فقد كان يفتي في أمور الدين وهو ابن الثانية والعشرين من عمره.
ولا يخفى على أحد أن ابن تيمية -رحمه الله- حمل لواء بعث الفكر الأسلامي وتجديد العلوم الشرعية ورفع لواء التوحيد ومحاربة البدع والأهواء والردود العنيفة القوية على الفرق الهالكة التي كادت للإسلام ونقده العنيف المر للفلسفة والميتا فيزيقا وعلم الكلام وترجيح منهج الكتاب والسنة وأسلوبهما على كل أسلوب ومنهج.
لقد كان ابن تيمية -رحمه الله- حربا حامية الوطيس لم يخمد لظاها وما أخبى سعيرها على رعونة المبتدعين في عصره، إنما كان سيفا مصلتا على رقاب الخارجين والمارقين المرجفين.
وقد أورد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في كتابه التاريخي المشهور (البداية والنهاية) كثيرا من مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره.
ومن فتاوَى ابن تيميَّة -رحمهُ الله- التي أُوذي بسببها؛ مَسألة منع شَدِّ الرحَّال إلى القُبُور، وفتاوِيه في الطَّلاق لا سيما جعل الطَّلاق الثلاث بلفظِ واحد ِواحدة، والعقيدة الواسطيَّة، والحمويَّة الكُبرَى؛ وهذهِ الأخيرة جَرَت لهُ بسببها أمُورٌ ومِحنٌ،
والشَّيء يُذكر ُبالشَّيء، ألَّفَ بعضُها في قعدة واحدة؛ فقد أملَى الحمويَّة بين الظَّهرين، وكَتَبَ العقيدة الواسطيَّة وهو قاعِد بعد العصر، وهاتان من المُؤلفات التي ألَّفها لأهَّل الآفاق، تَلبيَةً لطلبهُم، فالحمويَّة لأهَّل حَمَاة، والعقيدة الواسطيَّة لأهَّل وَاسِط، وأيضًا كَتَبَ التَّدمُريَّة لأهَّل تُدمِّر، والمرَّاكشيَّة لأهَّل مَرَّاكِش.
وقد كانت ثمة صراعات شتى بين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية -رحمهم الله- من ناحية وبين الصوفية من ناحية أخرى وقد شدد على أقطابهم ولا سيما الذين قالوا بالحلول وبالوحدة أمثال محيى الدين بن عربي والحلاج ورماهم بالزندقة والكفر والإلحاد.
ولقاء إخلاصه في دعوته كابد ابن تيمية -رحمه الله- وعانى من البطش والتعذيب فقد كادله خصومه وأعداؤه ودخل السجن مرات عديدة، وقد توفي وهو في السجن -رحمه الله- وجزاه عن الإسلام خيرا وألحقنا به في دار كرامته.
📌قال الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- :
“مشاهد مِن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، مات بسجن قلعة دمشق سنة 728 هجري، ختم القرآن في سجنه ٨٠ مرة هو وأخوه، وشرعا في الحادية والثمانين، فقرآ إلى “إن المتقين في جنات ونهر” ومات بعدها.
لما علم الناس بوفاته أتوا من كل مكان حتى امتلأت القلعة المسجون فيها عن آخرها. خرجت جنازته للصلاة عليها ودفنها قبل الظهر، ولم يُدفن إلا بعد العصر، من شدة الزحام على جنازته، ذهبت نعالُ الناس وعمائمهم، لا يلتفتون إليها من شغلهم بالنظر إلى الجنازة،
لم تشهد دمشق جنازة كهذه قبل ذلك، حتى قُدّر عددُ الرجال ب ستين ألفا إلى مائتي ألف، والنساء ب خمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كُنّ على الأسطحة وغيرها.
لم يُطبخ في أسواق دمشق في هذا اليوم، ولم تُفتح كثير من الدكاكين، كثير من الناس نوى الصوم في هذا اليوم؛ لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا شرب، لم يتخلف عن جنازته أحد من اهل العلم إلا ثلاثة، كانوا قد اشتهروا بمعاداته، فخافوا من الناس أن يقتلوهم،
كان في الجنازة عدد كثير لايحصيه إلا الله، حتى صرخ صارخ؛ هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ،
كل هذا مع أنه كان محبوسا قبل موته من قبل السلطان، وكثير من الفقهاء كانوا ينفرون الناس منه، ومع ذلك كانت هذه جنازته فقط دون سرد علمه ومناقبه، رحمه الله رحمة واسعة”.
📚 [ البداية والنهاية ص.698/767 ].