«مذابحُ الإخلاص»

|

«مذابحُ الإخلاص»

وما أكثرها اليوم مع انتشار العوالم الافتراضية! وما أشد فتنة الناس بها! ففي كل يوم يُذبح “الإخلاص” على أبواب تطبيقات التواصل الاجتماعي قُرباناً لإعجابات المتابعين واشتراكاتهم.

إن من خطورة الفتن ومما يساعد بانتشارها، هو إلباسها رداء الحكمة، وتغطيتها بما لا يكشف ويفضح حقيقتها. ومن هذه الفتن انفتاح الناس على بعضهم وسهولة مشاركة التفاصيل بينهم؛ فيُشارَكُ ما لا ينبغي لمن لا ينبغي له أن يراه، وكل ذلك تحت مسميات كثيرة و أغلبه -إلا من عصمه الله بصلاح النية- حُباً للظهور بمظهرٍ مُعين وخِداعاً للنفس قبل غيرها.

وانتشار كُثرة النشر والتصوير لكل شيء، من بيت وأثاث وأولاد وخروج ودخول، حتى الكتب والمكتبات الشخصية لم تسلم من هذا المرض، وتباهي الناس بذلك شيئاً عجيباً. ولم يعد يسلُم من ذاك طالب أو طالبة عِلمٍ إلا القليل منهم؛ فأصبحت صفحاتُهم مليئة بصور الكتب وتعدُّدها، وصار الأمر لدى الكثيرين استعراضاً لا غير. وكلما همَّ أحدهم بقراءة كتاب أشغله وضعه ديكوراً وإضاءات بما يتناسبُ والصورة التي سينشُرَها، وقد كان من قبلنا ليس يشغلهم وهم مقبلون على الكتب إلا تحصيلهم للعلم الذي فيها، ومن ثم العمل به وظهور آثاره عليهم.

فصار لدى البعض -إلا ما رحم ربي- اقتناء الكتب وصَفَّها في المكتبات؛ تباهياً لا طلباً لما فيها. فانظر بعد هذا كم من كتابٍ حُرم مُقتنيه مما فيه من الخير لفسادِ نيته “بالتباهي به” من حيث لم يشعُر؟

حتى الحجاب لم يسلم من هذا المرض، فبدلاً من كونه سِتراً يستر، أصبح محتوىً لجلب الإعجابات، فانظر لتلك التي لا تخطو خطوة بنقابها أو بجلبابها إلا وصورت نفسها ونشرت صورها للعامة تستجدي مديحاً من هنا وهناك.

عجباً! كيف لقلبِ إنسانٍ كثيرِ التقلُب ونفسٍ ضعيفةٍ جُبلت على حُب المديح أن يجد الاخلاص إليهما سبيلاً؛ وصاحبهما يُلقي بهما في شِباكٍ ملئت رياءً وسُمعة؟

هذا ولو اطلع أحدنا على حال ممن يُعتد بحالهم من أهل زماننا أو السابقين لنا؛ لم يجد عندهم من هذا شيئاً، وكيف سيجد ذلك وهم قومُ عرفوا نفسَ الإنسان وقلبه المُتقلِب حق المعرفة، وعرفوا الإخلاص ومكانته،  وألجموا نفوسهم بلِجام التقوى والابتعاد عن مزالق الشيطان استبراءاً لدينهم و إخلاصهم؟

فهذا الربيع بين خثيم -رحمه الله- تقول عنه ابنته سُرية: (كان عمل الربيع كله سرًّا، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه).

وعن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال: (لقد أدركت أقواما لا يستطيعون أن يسروا العمل شيئا إلا أسروه).

فما بال أحدنا اليوم لا يقرأ القرآن، ولا يتصدق بالصدقة، أو يطوفُ بالبيت؛ إلا وقد عَلم بعملهِ وطاعته هذه البعيد عنه قبل القريب؟ فيا لله، هل ضمِنّا قلوبنا وبقاءُ الإخلاص فيها؟ أم أخذنا عليها عهداً وثيقاً بأن لا تزيغ؟!

فرحِم الله زماناً كان المرء لا يُعلَم منه العملُ الصالح إلا خِلسة، وأصلح الله زماننا الذي أصبحت فيه العبادات مُحتوىً تُرجى فيه دُنيا زائلة تزول ويزول معها كل ما كان لها من دون الله.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة