عبادة اليقين في موعود الله؛ تلك العبادة المهجورة، والتي نحن أحوج لها اليوم مع تجدد البلايا والهموم على أمتنا الجريحة.
فما إن تبدأ بالدعاء وتذكر إخوتك في مكان ما أو بلد ما؛ تذكر إخوة آخرين منكوبين في مكان آخر، ثم آخرين إلى أن تطول القائمة، فتنتهي بـ “وسائر بلاد المسلمين والمستضعفين في كل مكان آمين”.
إلا أننا نحن المسلمون، نتعبد لله بأملنا، وحسن ظننا به، ويقيننا أن النصر قادم لا محالة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم نبّأنا بيقين لا شك معه في أحاديث كثيرة؛ أن النصر والتمكين للإسلام والمسلمين، وأن الغلبة كل الغلبة لتلك الفئة التي ثبتها ونصرها الله.
فلا بد للمسلم وهو يعيش كل تلك الجراح، ويرى ما يصيب المسلمين من بلاء، أن يتذكر ويستحضر أن تلك سنة الله في خلقه، وأن الله ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ وأنه سبحانه ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ فتهدأ نفسه وتستقر، ويقطع الطريق على الشيطان أن يدخل له من باب اليأس والقنوط والشك في وعد الله.
ففي حديث رسول الله ﷺ برواية خباب بن الأرت حين اشتد الظلم عليهم في مكة فشكوا له ﷺ وقالوا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقال ﷺ: “قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا الله ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”
سبحان الله! هم مستضعفون لا يقدرون الآن رفع الظلم عنهم؛ لكن رسول الله بيقين ثابت في نصر الله يقول: “واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ”.
وفي حديثه ﷺ مع زيد بن حارثة بعد أن عاد ﷺ من الطائف حزيناً مهموماً؛ بسبب إعراض أهلها عن دعوته وتطاولهم عليه، وإعراضهم عنه، وقد أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف يسبّونه، ويرمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان، وقد عزمت قريش على منعه من العودة إلى مكة، حتى لا يجد مكاناً يؤويه، أو أناساً يحمونه. فقال له زيد: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ (يعني قريشًا) وَهُمْ أَخْرَجُوكَ؟ فقال له ﷺ: “يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ”.
كيف؟ لا يدري صلوات الله عليه وسلامه؛ لكنه موقن بالله الذي ما ودعه وما قلاه.
ولو سأل سائل: قل لي بالعقل كيف تُحل؟ كيف نخرج من كل تلك البلايا؟ قل له وبالعقل كيف تُرفع السماء؟ وكيف تُشرق الشمس؟ كيف تثبت ولا تتحرك من مكانها؟ كيف تُمطِر السماء؟ كيف يدق قلبك مذ وُلِدت لا تشغل له بالًا؟ كيف وكيف وكيف؟
وإذا قال: كيف وهم أقوى، ومعهم عُدة وعَتاد؟ قل له: الله أكبر ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
ولنا في غزوة الأحزاب خير مثال، حين اشتد الحصار والجوع والعطش على رسول الله ﷺ وصحابته، فقد كانوا يربطون على بطونهم الحجارة، والعدو من أمامهم وخلفهم ﴿إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾، ومع هذه الشدة إلا أن رسول الله ﷺ كان يقول: “اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ”.
هو الله سبحانه القوي العظيم، ذو الجبروت، الحكيم الخبير، مالك الملك الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، له الأسماء الحسنى عز وجل في علاه.
إنه اختبار إيمانٍ وعقيدة، إيمان بوعد الله حتى مع ضعف الأسباب المادية لذلك النصر.
فمع شدة البلاء وزيادته يأتي فرج الله، ومتى نزعت منك الأسباب كلها فاعلم أن الاختبار قد بدأ، فلا تشك بنصر الله قيد أنملة.