رسائل الوصال

|

لطالما رأيت الابتلاءات محض اصطفاء من الله عز وجل ورسائل وصل لمن يحسن تلقيها، وأن الله عز وجل يبتلينا ليوحشنا من الدنيا وما فيها ومن فيها؛ فلا نأنس إلا به سبحانه وتعالى، ولا نرجو إلاه، ولا نسعى إلا إليه، وثَمّ الراحة حقاً.

لكن المغبون هو من ينشغل بالابتلاء عن مُقَدِّرِه، فيترك الأنس به، ويبحث مرة أخرى عند من يشقى به من الناس وفيما يُشقِيه من الدنيا.

ثم وجدت هذا المعنى وصفه بأكثر العبارات عمقاً وبأشد الأمثلة ألقاً؛ ابن الجوزي رحمه الله في كتابه صيد الخاطر؛ فقال: (رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارب عنهم؛ فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء لا يسترون زلة، ولا يعرفون لجليس حقاً، ولا يواسون من مالهم صديقاً؛ فتأملت الأمر؛ فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها، ليكون أنسه به).

أتأمل حال العالِم بربه؛ فأجده يحسن استقبال رسائل الابتلاء مهما كانت قسوتها، غير جازع ولا متسخط؛ بل مستبشر بالقرب من الرحمن جل وعلا وإن فقد الدنيا بأسرها، في الوقت الذي يصيب أحدنا خيبة من عزيز أو حبيب، فينشئ قصائد الخذلان وغدر الخلان، يعتكف على النواح ويستفيض مع غيره بالشكوى والبوح والصياح، يبحث عن أنسه عند من يعلم أنه سيشقى به ولو بعد حين.

وقول ابن الجوزي رحمه الله ليس إلا مثالاً على فقه تأويل الابتلاءات من أدناها إلى أعلاها.

هنا أدركت كيف أن أشد الناس بلاءًا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فكلما أتاهم الابتلاء رسول من ربهم، أكرموا وفاده، فازدادوا قرباً من خالقهم سبحانه وبحمده، وكلما ازدادت ابتلاءاتهم ازدادوا قرباً من ربهم سبحانه وتعالى. وكلما قل خير الإنسان وزاد جحوده، لم يعبأ به ربه سبحانه، فتقل رسائل الوصل.

الله عز وجل يغار على قلب عبده المؤمن، فياللحب والفرح لرب يغار على قلب عبده، فلا يملك صاحب القلب إلا أن يخر عبداً خاضعاً خاشعاً محباً مُجِلاً راضياً مستسلماً لكل أقدار ربه الودود وهو سبحانه القوي، الرحيم وهو القادر، الرءوف وهو المقتدر، الشكور وهو الغني، اللطيف وهو العزيز، الذي يفرح بتوبة عبده في حين أن الدنيا بأسرها لا تساوي عنده تبارك وتعالى جناح بعوضة.

فلا تُطِل مسافات البعد عن ربك، ولا تُطِل أزمنة الجفاء، وعد لربك عبداً خاضعاً متبتلاً، واستعذ بالله من قسوة القلب ومن موت القلب، وسل ربك أن يهب لقلبك حياة لا يملؤه فيها إلا الله عز وجل ومحبته ومهابته.

امتطي الابتلاء راحلة توصلك إلى الله عز وجل وتدنيك منه؛ فابتلاء يقربك من الله عز وجل، هو ميلاد جديد لكتربية النفس على هذه المعاني أوقات العافية، تبث في قلبك السكينة والرضا بالله وعن الله وعن أقداره، فتستطيع بفضل ربك الصبر والثبات والصمود مهما قابلت من شدائد وتقلبات للحياة التي لا تدوم لأحد على حال أبداً ولا تصفى صفاءًا إلا ويحدث ما يكدره ويعكره؛ فهي في ذاتها ابتلاء.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة