إذا عُرف السبب بطل العجب: لن تتعلق بعد اليوم

|

إذا عُرف السبب بطل العجب: لن تتعلق بعد اليوم

لقد رأيت في حياتي الكثير من حالات التعلق بين الأشخاص، والعجيب في الأمر أن هذا التعلق لا يفرق بين ملتزم وغيره؛ فكثير من الملتزمين أصيبوا بهذا الداء، وفُرض عليهم فرضاً، رغم علمهم بضرره وتداعياته على حياتهم، ومصيرهم في الدنيا والآخرة إن هم أهملوا العلاج.
فما هي الأسباب الحقيقية للمرض؟ وكيف ينتقل الإنسان من حالة الاتزان العاطفي، إلى حالة الغلو من حيث لا يشعر؟ وهل هناك أدوات ووسائل دقيقة لاستئصال المرض من جذوره إلى الأبد، بعيداً عن كثرة التنظير في الموضوع، وردِّ الأسباب إلى المشاكل التربوية، مما يوحي للمتعلق أن المرض حتمي لظروف خارجية فوق قدرته وطاقته، فيصاب بالعجز ويتسلط عليه الداء؟

لا ننكر أبداً أن الظروف الخارجية لها تأثير على تركيبتنا النفسية؛ فالقول بأننا أبناء بيئتنا فيه كثير من الصحة، نظراً لدور الأسرة والمجتمع في تكوين الأفراد وبنائهم. ولكن السؤال المطروح: هل الذين نشأوا في أُسَرٍ فقيرة المشاعر والاهتمام، ستكون إصابتهم بالتعلق المرضي أمراً حتمياً عند وجود من يشبع حاجتهم إلى العاطفة والاهتمام؟
‏ والجواب الدقيق أن هذا يمكن أن يكون عاملاً مساعداً؛ ولكنه لن يجعل من المرض أمراً محتوماً إذا توفر الوعي والمبادئ والقناعات اللازمة؛ فالقناعة تولد المناعة.
فما هي حدود هذا الوعي ومكنوناته؟ وما هي القناعات والمبادئ التي إذا امتلكها الإنسان فسيبني لنفسه جداراً مناعياً تتساقط على أعتابه كل الأشياء الهدامة؟

بعد هذه المقدّمة، أضع بين أيديكم خلاصة ما أعرفه في الموضوع، وأسأل الله أن ينفع بها كل مبتلى بهذا الداء.

هناك ثلاثة معارف أساسية لا رابع لها، يدور في فلكها علاج المرض بشكل نهائي. وهي: معرفة الله، معرفة المُتَعلَّقِ به، ومعرفة المتعلِّق بنفسه.

معرفة الله:

على الإنسان أن يعرف أن أسباب كل الأمراض النفسية والروحية، مرجعها هو ضعف العلاقة مع الله تعالى؛ فعلاقة العبد بربه هي الضابط لنفسه البشرية المليئة بالضعف والنقص، فكلما كانت العلاقة أقوى، استمدت النفس من تلك القوة مناعة رهيبة ضد كل ما يهدمها. أما إذا ضعفت العلاقة بالله وخبت؛ فستكون النفس مرتعاً لكل الأوبئة والأمراض.
كيف أقوى علاقتي بالله تعالى؟

حتى تكون العلاقة بالله تعالى قوية لا بد من معرفته. فالمحبة تسبقها المعرفة؛ إذ كيف نحب من لم نعرف؟ ومعرفة الله تكمن في أمرين أساسيين:

  • تدبر آي القرآن، وحصول المقصود منها من فهم عن الله، وخشية، وزيادة إيمان، واستهداء.
  • ‏- التفكّر في مخلوقات الله ورؤية حكمته فيها، والتدبر في أسمائه وصفاته.
  • ‏فإذا التزم العبد هذان الأمران، وجعلهما منهج حياته، لا يحيد عنهما أبداً؛ فستتولد لديه معرفة دائمة بربه، موجبة للمحبة التي هي أساس كل خير.

معرفة المُتَعَلَّقِ به:

علينا أن نفهم بشكل دقيق كيف يحدث التعلق بهذا الشخص؟ فإذا عُرِف السبب، سيبطل الكثير من العجب.
‏سنتفق جميعاً بأن المتعلِّق يرى محبوبه بعين الكمال؛ فإذا ذكره اهتز قلبه لتلك الأخلاق الفاضلة التي لا يشوبها أي نقص، وتلك الشخصية الجذابة التي لا تعرف ضعفاً ولا خوراً، وذلك الإنسان الذي عزّ أن يكون له نظير في الكون كله، ففيه اجتمعت المحاسن والفضائل والمكارم، وانتفى عنه النقص والضعف. لا شك في أن نظرة المتعلِّق لمحبوبه نظرة كمال، فيها الكثير من الظلم، في حق النفس والمحبوب على حد سواء.

الظلم في حق النفس:

يكمن ظلم النفس في تحقير الذات وتذليلها، وذلك بالمبالغة في تعظيم المحبوب. فكلما تعاظم المحبوب في عين المحب، تقزمت نفسه وصغرت وهانت، وزادت ارتباطاً به. فتبعية الضعفاء للأقوياء ديدن ودين.

كيف أدفع عن نفسي هذا الظلم؟

الحل هو أن تنظر إلى هذا المحبوب نظرة واقعية متزنة، بعيدة عن كل إفراط أو تفريط. ومهما كان المحبوب شخصاً فاضلاً، أو عالماً نحريراً، أو مصلحاً عظيماً؛ فلا تنسى أنه بشر، وأنه يجري عليه من الضعف والنقص ما يجري على العباد، ومهما اجتهد هذا الصالح في أن لا يخطئ فإنه لن يقدر.

فمن ذا الذي لم يخطئ قط
‏ ومن ذا الذي له الحسنى فقط

ولندرك أننا نحيا بستر الله، إذ يُظهر منا الحسن ويستر القبيح. ولو هتك الله الستر بين العباد فقل على الحبّ السّلام.

الظلم في حق المحبوب:

قد فهمنا الظلم في حق النفس، فكيف يكون الظلم في حق المحبوب؟
‏إن نظرة المحب بعين الكمال لمحبوبه، تجعله أكثر تعلقاً به، مما يدفعه إلى تتبع حركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله، وخرجاته ودخلاته؛ بل ويصل به الأمر إلى حد التملك، فلا يقبل أن يشاركه فيه أحد، فيغضب ويحزن إذا عامل غيره، وصادقهم وصافاهم، وهذا ما يخلق نوعاً من الضغط على المحبوب، فيحس بالاختناق والنفور من هذا المحب، ثم يبدأ بعمل ردات فعل أقل ما يقال عنها أنها طبيعية جداً؛ فلكل إنسان دائرته، وكيان لا ينبغي أن يخترق.
فإذا رأى المحب من محبوبه الصد والنفور والقطيعة، فسيكون أمام أمرين:

الأمر الأول: أن ينهار وتنهار حياته كلها، إلى أن يقدر الله أمراً.
الأمر الثاني: أن تنهار تلك الصورة الكاملة البراقة عن المحبوب، فتتمزق وتتلاشى دفعة واحدة، فيتحول من محبة عظيمة ناتجة عن صورة كاملة، إلى بغظ عظيم بعد زوال تلك الصورة بشكل كامل، فلم يبق منها شيء.
وهنا يكمن الظلم للمحبوب: حب متعاظم فتَملُّكٌ فبُغضٌ عظيم غير مبرَّر.

وهنا يحضرني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما”، والحديث ضعفه علماء وصححه وحسنه آخرون. فانظروا كيف يكون للنظرة الشاذة غير المتزنة للأمور من تداعيات خطيرة على حياة الناس.

كيف لي أن أتجنب ظلم المحبوب وقد أصبت بالداء؟

يكمن ذلك فيما ذكرناه سابقاً، وأن يُعذَر المحبوب في صدّه ونفوره، وينبغي ضبط المحبة ونقلها من درجة الإفراط إلى الاتزان لا إلى التفريط، ثم البغض والحقد غير المبرر.

معرفة المتعلق بنفسه:

على المتعلق أن يعطي مساحة لنفسه ليتعرف عليها، فيدرك عيوبها ويسعى لعلاجها، ومكامن القوة فيها فينميها ويرتقي بها. وإن من أعظم الوسائل بعد معرفة الله ومحبته والانشغال به للقضاء على التعلق المرضي، هي أن يضع الإنسان لنفسه أهدافاً يسعى نحوها؛ كطلب علم، وتعلم حرفة، وممارسة رياضة، أو الانشغال بأي شيء مفيد تهواه النفس، فتعمل على إنمائه وتطويره، حتى تكون فاعلة ومؤثرة في دنيا الناس به.


وخلاصة القول:

  • اعتنِ بعلاقتك بربك، ولا تحد أبداً أو تهجر القرآن وعبادة التفكر في خلق الله وأسمائه الحسنى.
  • صحح تصورك، فمهما بلغ الناس من مراتب عالية، فسيبقون بشراً يجري عليهم من الضعف والنقص، ما يجري على كل البشر.
  • لا تبالغ في تعظيم أحد على حساب نفسك. وما بلغه الآخرون يمكن أن تبلغه أنت. الفرق بينك وبينهم أنهم بذلوا واجتهدوا، بينما اكتفيت أنت بالانبهار.
  • لا تكن فارغاً بلا هدف وابحث عما يناسبك وانطلق.
  • من عَظُمَ حب الله في قلبه، فسيكرمه بأخلاء وأحباب فيه، تجمعهم أجمل المشاعر وأرقاها. وهل هناك أنقى وأرقى من الحب في الله؟!

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة