بمجرد سعيك في الحياة ستدرك أن من لوازم الدنيا، الكثير الكثير من الألم. ألم بألوان وصنوف شتى؛ مادي ومعنوي.
وحين تتعرض لأي نوع من الألم، لأول مرة يكون شديداً وشعورك به عميق، فإن أنت عشت داخل الشعور وتقوقعت واسترسلت فيه؛ يكاد أن يتملكك ويسيرك.
أما إن استعليت عليه، وانشغلت عنه، وتيقنت أن التقوقع فيه سيدمرك ولن تجني من خلفه أي منفعة؛ فستستطيع العبور فوقه. بل لعلك تعاملت معه كعارض يمكنك التحكم به وبدرجة تأثرك به. ثم مرة بعد مرة، يكاد يصبح شيئاً اعتياديّاً اكتسبت مناعة ضده وضد توابعه.
تحكي إحداهن أنها حين وضعت طفلها بعملية قيصرية، وصُرف لها المسكن الذي لم تستطع أخذه، قررت أنها لن تأخذ أي مسكنات، وستصبر على الألم مهما كان، فهذه ليست المرة الأولى التي تلد فيها، وقد كان، حتى أن الأطباء أنفسهم تعجبوا أنها لم تأخذ أي مسكن، ولولا أن الموقف كان على عيني ما صدقت.
بالطبع أنا لا أناقش صحة الموقف من عدمها، ولا أدعو لاتخاذها قدوة مثلاً، ولكنه مثال واقعي جداً على الفكرة التي أطرحها، أنك حين تستعلي على ألمك مهما كان وتقرر أنك من ستتحكم به وليس هو ما سيتحكم بك، ستدرك أنك تتمتع بقدرات مذهلة.
أي نوع من الألم؟ نعم أي نوع.
حتى الآلام المادية من جروح وغيره؟ حتى هذه، وقد ذكرت مثالاً والأمثلة في ذلك أكثر وأقوى.
التحمل والتحكم، لا يعني أبداً عدم الشعور أو انعدام الأذى؛ ولكن يعني تقليل الآثار السلبية لأقل حد، وسرعة الاستفاقة بعده، وأن تكون اختياراتك في المواقف المزلزلة نابعة عن قناعاتك الشخصية وما تؤمن به وما تخطط بأنه سيكون فعلك حين تفكر في الأمر في أشد أوقات استرخائك، كل هذه في نفس اللحظة التي تُزلِزل أي إنسان.
ولك في عروة بن الزبير رضي الله عنهما أصدق مثال، حين قرر أنه لن يأخذ أي شيء يذهب عقله حال قطع ساقه.
وهذا الحال مع أبنائك أيضاً؛ حين تحيطهم بهالة حماية محكمة، انت بذلك لا تنفعهم أبداً؛ بل فعلك هذا لضرهم أقرب منه لمنفعتهم. فالشخصية الهاشة القابلة للكسر من أقل خدش، المتشبعة بشعور الاستحقاقية، الناقمة على أي عارض من ألم؛ ستكون هي النتيجة.
ثم أنت غير مخلد لتظل تلك الهالة من الحماية مفعلة، ولن تترك ابنك في جنة مزدانة لا يصبه فيها مثقال ذرة من أذى.
استفق؛ فأنت لن تتركه سوى في دنيا الشر فيها يغلب الخير، والألم لا حصر له والعناء لا نهاية له؛ إلا في الجنة بإذن الله.
ثم لم تكن تلك المعضلة الوحيدة؛ بل “الاستخلاف”.
فالمسلم قوي أبي شامخ، لا ينكسر أبداً إلا على عتابات العبودية لله عز وجل. هذه هي النسخة الأصلية للمسلم، وإن كانت التحديثات بعد ذلك مُحبِطة؛ لكن تظل هذه سمة المسلم وسَمْتُه وما يجب أن يكون عليه.
فلعلك سمعت عن أبي بصير رضي الله عنه، أو لعلك سمعت قبله عن سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه، أو سيدنا عاصم بن ثابت رضي الله عنه.
بل قبل ذلك لعلك علمت قصة بلال رضي الله عنه، أو سلمان الفارسي، أو مصعب بن عمير رضي الله عنهما، إن لم تعرف قصة خباب بن الأرت رضي الله عنه فعليك بسرعة البحث عنها ومعرفتها، ومؤكد أنك تعرف قصة ياسر وسمية رضي الله عنهما وجزاهم جميعا عنا خيراً.
استعلاء على الابتلاء بالله عز وجل وبالإيمان به حقاً، إيماناً ينعقد في القلب حتى يتملكه تماماً؛ ثم يتمدد لباقي البدن ويسيطر عليه، إيماناً به عبودية وحباً ورغبة ورهبة. ربوا رجال، رجال بحق.