لفتني تألق عينيه بلمعة الحب، وقد انضممت للمجلس لتوي، فتعجبت عمن يحكي بهذه الحماسة وتوهج العينين، وكان يرد عن سؤال لم أسمعه، ولكني سمعت الإجابة جيداً: نعم أحبها حباً لا حدود ولا وصف له، تلك هي المرأة التي تستحق أن توضع مكان العينين بلا مبالغة، كمراهقة توقعت أنه يتحدث عن حب في حياته وظللت في نفسي حزينة على زوجته التي أعرفها جيداً، بلسم هي، كما يقال توضع على الجرح فيبرأ.
انتشلني من أفكاري نفس الجملة التي أطلقها خالي: هي بلسم حياتي حقيقة وليس مجازاً، أذهب إليها بجروح الحياة وقد أدمتني فإذا بها الدواء، الحمد لله على نعمة وجودها في حياتي.
وهنا لم أستطع الصمت أكثر فصحت: ما هذا يا خالي؟ أتعرف أخرى غير خالتي (وقد كنت أنادي زوجة خالي بخالتي)؟ وهنا انفجر الجميع ضحكاً، وصمت أنا.
بعد انتهاء موجة الضحك نظر إلي خالي قائلاً: لماذا افترضت هذا الافتراض يا حبيبة خالك؟
فقلت: من نظرة عينيك وجمال عباراتك عمن تتحدث عنها!
رد خالي: ولم لم تفترضي أنني أتحدث عن زوجتي؟ ألا تستحق؟
وهنا انتابتني موجة من الإحراج وددت لو أني لم أنضم إلى جلستهم فأخذت أتعلثم قائلة: لا أبداً، تستحق خالتي أكثر من ذلك حقيقة لا مجاملة، ولكنا لم نعتد أن نسمع مثل هذا الكلام من رجل عن زوجته، واعتدنا أن تكون هذه نظرة الرجل لامرأة لا تحل له حبيبة أو صديقة أو حتى زميلة عمل.
وهنا نظرت لي أمي نظرة التوعد تلك التي تعرفونها.
وبادر خالي بسؤالي: وهل هذا ظنك في خالك؟
عدت لحالة التعلثم وقد صمت الجميع مستمعاً لحوارنا؛ فرددت قائلة: لا طبعاً يا خالي، وإلا لما سألتك متعجبة، الصورة الذهنية عند جيلنا أن الحب بهذه الطريقة العميقة لا يكون بين الأزواج ولكن.. وصمتُّ ولم أستطع إكمال الجملة. لم يتحدث أحد منتظرين إكمالي؛ فقلت كلامك سقط على هذا التصور في ذهني الذي أرفضه شكلاً وموضوعاً بالطبع.
قال خالي: مخادعون، الرجال يوهمون النساء بذلك؛ ولكن هذا ليس حقيقي، لا أحد يحبك فعلاً إلا الذي عاشرك وعرف عيوبك وساعدك على إصلاحها أو تأقلم معها، وضعيها قاعدة في عقلك: من يحب أحد يخاف عليه من الأذى، وأشد أذى قد يقع فيه إنسان هو النار، فدعك من هذا الهراء، وطبعاً لا أبرئ أي امرأة فتحت الباب أمام دخيل وتركته يعيث في قلبها ونفسها ودينها فساداً؛ بل هي المُلام الأول، فلو لم تفتح الباب بنفسها ما استطاع الدخول.
شعر أخي حبيبي بالورطة التي وقعت فيها ومدى إحراجي، فالتقط طرف الحديث قائلاً: لم تخبرنا يا خالي لماذا؟
اتجهت جميع الأعين ناحية خالي الذي قال: تواسيني دائماً، حين..
لم يكمل إلا وقد قاطعته أختي قائلة: مؤكد أنها تواسيك بمالها.
رد خالي: بالطبع لا، فكما تعلمون هي لا تعمل وليس لها مصدر دخل خاص بها، ولم تعترض يوماً؛ بل تقر في بيتها بمنتهى الحب والسكينة التي تفيض على جنبات البيت فتملؤه سكينة ودفئاً.
هنا كان أخي قد شده الكلام جداً؛ فسأل خالي: إذن كيف تواسيك؟
رد خالي وقد عادت إليه لمعة عينيه: ما أتيتها مهموماً يوماً إلا ولم تنفض جلستنا وقد سري عني، بلطف كلامها وحسن بيانها وقوة حجتها، حتى أنني كل مرة أقول لنفسي الحمد لله أن رزقنيها بغير حول مني ولا قوة، فيشد الله عز وجل بها عضدي ويقوي بها ساعدي، تختار معي معاركي بعناية فائقة تلك التي لن تجد إحداها معركة دنيوية أبداً .. تقول لي دائماً: (يا حبيبي هذه ليست دارنا ولم نخلق لها أبداً، الحمد لله الذي يبتلينا فيها حتى لا نركن إليها. دارنا هناك حيث صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأنبياء كلهم، حيث نرى وجه ربنا عز وجل بإذنه، لا تحزن يا حبيبي فالله عز وجل إنما يبتلينا ليطهرنا، لم أعلمك إلا عبداً صالحاً ويقيني في الله عز وجل أنه لن يضيعك أبداً، مهما فاتك من الدنيا ومهما أصابك من نصبها فهو في ميزانك بإذن الله عز وجل، فالمهم عندنا هو ميزان الآخرة فهو ما يحدد الفائز والخاسر).
قلت فوراً: تذكرني بالسيدة خديجة رضي الله عنها.
قال خالي بتوهج عينيه: فعلاً هي تقتدي بأمهات المؤمنين والصحابيات في كل أمر مهما كان صغيراً، وتتحرى أن توافقهن في قولهن وفعلهن، فهي لا تشق علي أبداً في أي أمر دنيوي، قنوعة وصابرة، تحثني دائماً على الصدقة؛ فتفرح إن علمت أني تصدقت أكثر من فرحها بالرفاهيات والهدايا، وتربي أبناءنا على ذلك. لا حرمني الله عز وجل صحبتها في الدارين يارب.
قلنا جميعاً: آمين يا رب.
وهنا قالت أمي: ولكنك أيضاً من نعم الله عليها يا ياسر، فأن تتزوج المرأة رجلاً يرى خيرها ويتغافل ويتغافر عن عيبها لهي نعمة عظيمة، أن يرد لها الإحسان إحساناً وأن يقدم لها المعروف ويمحي بحسناتها آثار سيئاتها حتى وإن عاتبها مع محاولة إصلاحها، لهي نعمة عظيمة تستحق الشكر، فأذكر صديقة مواصفاتها تماما كأم خالد ولكنها ابتليت برجل جاحد لا يعرف لأحد معروف ولا فضل، بخيل المشاعر ومفتقد للمروءة.
رد خالي: صحيح يا سمية، فجحود الإنسان لخير الطرف الآخر، من أشق الأمور على النفس ومن أشد الابتلاءات؛ فالجحود يتبعه كثير من الأذى، ومن لا يرى إلا عيوب الطرف الآخر يُشقيه بالفعل ويؤخره في حياته كلها وحتى في عباداته، ويفقده الثقة في نفسه، الجحود أثره سيء جداً وممتد لجميع جوانب الحياة، عافانا الله من صحبة هؤلاء.
قلنا جميعاً: آمين يا رب آمين.