أنتِ البُنيان

|

أنتِ البُنيان

لا زلتُ أذكر كلامَها؛ فأستفيدُ منه رغم قِدم عهده، وأفيدُ غيري بعِبرتهِ.

في صِغري انبهرتُ (بالتلفاز)لمّا كنتُ أشاهدُ شريطًا كرتونيًّا عليه، فسألت والدتي عن مخترعيه وكيف جعلوه يعمل بهذا الشكل المُبهر، فأجابتني، ثم بدّدت عجبي منه لمّا سألتني أولا تعجبين أكثر من الهاتف الأرضيّ الذي نتحدّث به مع أشخاص يبعدون عنّا مسافات وكيلومترات كثيرة؟ ونسمعهم ويسمعوننا؟

فدقّقت قليلا، وقلت: بلى يا أمّي، حقًّا كيف ذلك؟

فشرحت لي؛ ثم نسفت كل ذهولي من الاختراعات البشريّة عندما سألتني: كيف نسمع نحن؟ فأجبتها بمنتهى الدهشة: ونرى ونتذوق. فحكت لي: أي بنيّة، فلننظر إلى أنفسنا وبديع خلق الله لنا، فرُحتُ أتطلّع إلى خلقتي، وأغلب مخلوقات الله وآياته تنسابُ إلى عقلي، فتارة أقول لها السماء وتارة الحيوانات، وهي تقول لي كم نحن مقصّرون في حقّ الله، نستعظم صور مرسومة متحرّكة غير صادقة، والطبيعة الخلّابة أمام أعيننا لا نتأمّلها؛ فتصاغرت إليّ نفسي رغم صغر سنّي، وعَظُمَ الله في عينيّ، وصغرت اكتشافات البشر في نفسي. وللآن ما وصل إليه الغرب من ابتكارات واستحداثات؛ يردّني إلى التّبصر بصنع الله الذي أتقن كل شيء سوّاه وكوّنه، وكلامها يجعلني أديم النظر في إبداع الخالق وكماله.

وهذا نِتاج مَن؟ نتاجكنَّ، أنتنّ عمدة الطفل، وبناؤه القويم، وتوجيههُ السّليم.

وحدّثتني صديقتي عن جواب أمّها الحكيم لمّا كانت تسألها الأسئلة الوجودية، ولقد استطاعت والدتها أن تثلج قلبها على المدى البعيد. كان جواب أمها الرزين مستسقى من القرآن، وربّما ردّ أمي مستمدٌّ من هدي الرسول ﷺ، فقد أهدي للنبي ﷺ ثوب من حرير فجعل الصحابة يتلمّسوه، ويتعجّبون منه، فقال: “أوتعجبون من هذا”؟ فقالوا: نعم، فقال: “مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا”.

ذكرتُ المَنهل؛ لأرشدك إليه، فلكم هو مهم أن يتربّى الطّفل بالوحيين، اعتصمي بحبل الله وسنّة رسوله ﷺ؛ حتّى يُبنى طفلك على نور وهدى.

وأرشدكِ إلى عظم شأنِ سماع طفلك والإجابة عن تساؤلاته، اصبري على ثرثرته وكلامه المتريّث الفاتر ولو كنتِ في خضمّ شغلك أو أوج إرهاقك النفسي، ولا تسخري من أي سؤال يطرحه؛ أجيبيه بما يشبع حاجته ويناسبها.

وإن لم تعرفي الجوابَ أو أن الجواب فوق مستوى عقل طفلك، فاذكري له شيئًا يتعلق بسؤاله واشغليه به على أن يكون أجلّ وأهم من سؤاله، “فالطفل لا يسأل دائما لأجل المعرفة، بل قد يسأل ليعبّر عن حاجة عنده، كلفت الانتباه أو الرغبة في الحديث مع والديه أو غير ذلك”، وتستطيعين بعدها أن تبحثي وتسألي عن جوابٍ لسؤال طفلك إن كان يلزم الإجابة عنه والتوضيح، وتذكّري أنك تعطين طفلك ما يحتاجه وتزيدينه وتفيدينه بالاستعانة بالله والاستهداء بهديه وبالصبر والحِلم.

وأقدّم لكِ بضع نصائح غيرها لا تدور حول قصتي مع والدتي لكنّها ضمن موضوع المقال، فأرجو أن تنتفعي؛

أوصيكِ بتنشئة ابنك على العزّة والإباء والمروءة والثقة بالله والاستعلاء بالإيمان، اجتهدي كثيرا بألّا يتّسم بضعف الشخصيّة والهوان فذانك أسوأ ما يلصق به، ويعدمه، ويعِش فيه بدنوٍّ ووضاعة، تجنّبي هذا بتلقينه أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، أعلميه أنْ لك رب قويٌّ عزيزٌ يحبّك ويريد لك الخير، وقد سخّر لك الجبال والرياح والدواب والكثير لأجلك أنت، وسخّر الملائكة يحمونك من بين يديك ومن خلفك.

اروِ له عن الأنبياء عليهم السلام، وعن القائد العظيم محمد ﷺ، وصحابته الكرام، وعن حياء وعفة الصحابيات لطفلتك، وابتعدي عن حكايات ساندريلا والأميرة والوحش وغيرها مما لا تغني ولا تسمن من جوع، ولقّنيه معاني الإسلام العظيمة والعقيدة الصافية النّقية، وعلّميه العربيّة والقرآن.

وأكثري من الدعاء لطفلك، “فكم من دعوة اختصرت مسافات التربية”، وقد دعا الأنبياء والمرسلون لأبنائهم وزوجاتهم فقالوا: {رَبَّنَا هَبّ لَنَا مِنّ أزوَاجِنَا وَذُرِيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}، {وَإذّ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِ اجْعَلّ هَذَا البَلَدَ ءَامِنًا وَاجنُبنِي وَبَنَيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصنَامَ}، والدعاء عبادة تؤجرين عليها، واعتراف بعجزك إن لم يعنك الله.

كوني قدوة حسنة لطفلك، قوّمي نفسك وعبادتك، وتزيّني بالخصال الحميدة والشمائل الحسنة، أريه منك ما تحبّين أن يتحلّى به، فليس من المنطق أن تطلبي من ابنك ما تفقدينه أنت من دين وأدب وصبر ووقار.

فرّغي لطفلك وقتًا كافيًا وافيًا، ولا تؤثري زياراتك وجيرانك، وتصفّحك ومطبخك عليه، أنتِ مسؤولة عنه أمام الله، فاجعلي له نصيبًا كبيرًا من وقتك، وإنّ التربية ثغر عظيم فاحرصي على سدّه وتسديده.

أحيطيه بالصحبة الصالحة، رفقة القرآن والمساجد، ذُبِّ عنه كل سهم يودي بهلاكه، نحو: الانترنت، والشاشة، والصحبة السيئة، وغير ذلك.

والصلاة الصلاة، احرصي أن تكون قرّة عين ابنك وراحته، لا جبلًا على كاهله يريد أن يتخفف منها، فالزمي الهدي النبوي في تربيته عليها.

علّقيه بالدار الآخرة، وعظّمي وحفّزي، وكرّميه على كلّ عمل يفعله يدنيه من الجنّة، ولا تحتفي فقط بالأمور الدنيويّة.

وختامًا، عليكِ أن تعي جيّدًا قيمة ثغرك وعظم أجرك، فهذا يجعلك تبذلين الكثير والغرير، واصدقي الله يصدقك، فلا بد من الإخلاص في التربية، لا ليقولوا ابن فلانة كذا؛ بل رغبة فيما عند الله وابتغاء وجهه، ونفعًا للمسلمين. وهذا أعلى وأهم ما أوصيك به، فإن انلثم إخلاصك؛ ضيّعتِ عليك الثمين والنفيس، وسعيك وتعبك بكلّ ما قدمته يحبط، وما لك عليه من أجر، خذيه ممّن شغلك ثناءهم على تربيتك.

أنتِ بناء طفلك، فأعدّي العدّة، لتحظى أمّتك بثمرتك العريقة الطيّبة.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة