حليمة السعدية؛ أُمُّ الرَّسول الأعظَمِ ﷺ مِنَ الرَّضاعِ

|

حليمة السعدية؛ أُمُّ الرَّسول الأعظَمِ ﷺ مِنَ الرَّضاعِ

إنّها السَّيِّدة الجليلة حليمة السعدية؛ أمُّ نبيِّنا محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- من الرَّضاع.

ولإرضاع السَّيِّدة السَّعديَّة للطفل المبارك الذي ملأ الدنيا برًّا ومرحمةً، وأترعها خيرًا وهديًا، وزانها خلقًا وفضلًا؛ قصةٌ من روائع القصص، حكتها حليمة السَّعديَّة في خبرها عن النَّبيِّ الكريم ﷺ من روائع الأخبار.

قالت حليمة السعدية:

(خرجت من منازلنا أنا وزوجي وابن لنا صغيرٌ نلتمس الرُّضعاء في مكَّة، وكان معنا نسوةٌ من قومي بني سعدٍ قد خرجن لمثل ما خرجت إليه، وكان ذلك في سنةٍ قاحلةٍ مجدبةٍ، أيبست الزَّرع وأهلكت الضَّرع فلم تُبقِ لنا شيئًا. وكان معنا دابَّتان عجفاوان مسنَّتان لا ترشحان بقطرة من لبنٍ؛ فركبت أنا وغلامي الصَّغير إحداهما، أمّا زوجي فركب الأخرى، وكانت ناقته أكبر سنًا وأشدَّ هُزالًا.

فلمّا بلغنا مكَّة وبحثنا عن الرُّضعاء وقعت في أمر لم يكن بالحسبان، ذلك أنه لم تبق امرأةٌ إلا وعرض عليها الغلام الصَّغير محمَّد بن عبد الله، فكنّا نأباه لأنّه يتيم، وكنّا نقول: ما عسى أن تنفعنا أمُّ صبيٍّ لا أب له؟ وما عسى أن يصنع لنا جدُّه؟

ثمَّ إنّه لم يمض علينا غير يومين اثنين حتّى ظفرت كلُّ امرأة معنا بواحد من الرُّضعاء؛ أما أنا فلم أظفر بأحدٍ. فلمّا أزمعنا الرَّحيل قلت لزوجي: إنِّي لأكره أن أرجع إلى منازلنا وألقى بني قومنا خاوية الوِفاض دون أن آخذ رضيعًا، فليس في صُويحباتي امرأةٌ إلاَّ ومعها رضيعٌ، والله لأذهبنَّ إلى ذلك اليتيم، ولآخذنَّه. فقال لي زوجي: لا بأس عليك، خذيه فعسى أن يجعل الله فيه خيرًا. فذهبت إلى أمِّه وأخذته، ووالله ما حملني على أخذه إلاَّ أنِّي لم أجد غلامًا سواه.

فلمّا رجعت به إلى رحلي وضعته في حجري، وألقمته ثديي، فدرَّ عليه من اللَّبن ما شاء الله أن يدرَّ بعد أن كان خاويًا خاليًا؛ فشرب الغلام حتّى رَوِي، ثمَّ شرب أخوه حتّى رَوِي أيضًا، ثمَّ ناما، ثمَّ حانت من زوجي التفاتةٌ إلى ناقتنا المسنَّة العجفاء، فإذا ضرعاها حافلان ممتلئان، فقام إليها دهِشًا، وهو لا يصدِّق عينيه وحلب منها وشرب، ثمَّ حلب لي فشربت معه حتّى امتلأنا ريًّا وشبعًا، وبتنا في خير ليلةٍ.

فلمّا أصبحنا قال لي زوجي: أتدرين يا حليمة أنّك قد ظفرت بطفل مبارك؟ فقلت له: إنّه لكذلك وإني لأرجو منه خيرًا كثيرًا.

ثمَّ خرجنا من مكَّة فركبت أتاننا المسنَّة وحملته معي عليها؛ فمضت نشيطة تتقدَّم دوابَّ القوم جميعًا حتّى ما يلحق بها أيٌّ من دوابِّهم. ثمَّ قدمنا منازلنا في بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أشدُّ قحطًا منها ولا أقسى جدبًا؛ لكنَّ غنمنا جعلت تغدو إليها مع كلِّ صباح، فترعى فيها ثمَّ تعود مع المساء، فنحلب منها ما شاء الله أن نحلب، ونشرب من لبنها ما طاب لنا أن نشرب، وما يحلب أحدٌ غيرنا من غنمه قطرةً.

فجعل بنو قومي يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا بغنمكم حيث يسرح راعي بنت أبي ذُؤيب، فصاروا يسرحون بأغنامهم وراء غنمنا؛ غير أنّهم كانوا يعودون بها وهي جائعةٌ ما ترشح لهم بقطرةٍ.

ولم نزل نتلقّى من الله البركة والخير حتّى انقضت سنتا رضاع الصَّبيِّ وتمَّ فطامه، وكان خلال عاميه هذين ينمو نموًّا لا يشبه نمو أقرانه، فهو ما كاد يتم سنتيه حتّى غدا غلامًا قويًّا مكتملًا.

عند ذلك قدمنا به على أمِّه، ونحن أحرص ما نكون على بقائه فينا، لما كنّا نرى في بركته، فلمّا لقيت أمَّه طمأنتها عليه وقلت: ليتك تتركين بُنيِّ عندي حتّى يزداد فُتوَّةً وقُوَّةً، فإني أخشى عليه وباء مكَّة. ولم أزل بها أقنعها وأرغِّبها حتّى ردَّته معنا؛ فرجعنا به فرحين مستبشرين.

ثمَّ إنه لم يمض على مقدم الغلام معنا غير أشهرٍ معدودات حتّى وقع له أمر أخافنا وأقلقنا وهزَّنا هزًّا. فلقد خرج ذات صباح مع أخيه في غنيماتٍ لنا يرعيانها خلف بيوتنا؛ فما هو إلاَّ قليلٌ حتّى أقبل علينا أخوه يعدو، وقال: الحقا بأخي القرشيِّ، فقد أخذه رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ فأضجعاه، وشقّا بطنه؛ فانطلقت أنا وزوجي نغدو نحو الغلام، فوجدناه منتقع الوجه مرتجفًا، فالتزمه زوجي، وضممته إلى صدري، وقلت له: مالك يا بُنيَّ؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ فأضجعاني، وشقّا بطني، والتمسا شيئًا فيه، لا أدري ما هو ثمَّ خلَّياني، ومضيا.

فرجعنا بالغلام مضطربين خائفين، فلمّا بلغنا خباءنا التفت إليَّ زوجي وعيناه تدمعان، ثمَّ قال: إنِّي لأخشى أن يكون هذا الغلام المبارك قد أصيب بأمر لا قبل لنا بردِّه، فألحقيه بأهله، فإنّهم أقدر منّا على ذلك.

فاحتملنا الغلام ومضينا به حتّى بلغنا مكَّة، ودخلنا بيت أمِّه، فلمّا رأتنا حدَّقت في وجه ولدها، ثمَّ بادرتني قائلة: ما أقدمك بمحمَّد يا حليمة وقد كنتِ حريصةً عليه، شديدة الرَّغبة في مُكثه عندك؟ فقلت: لقد قوي عوده، واكتملت فتوَّته، وقضيت الذي عليَّ نحوه، وتخوفت عليه من الأحداث؛ فأدَّيته إليك.

فقالت: اصدقيني الخبر فما أنت بالتي ترغب عن الصَّبيِّ لهذا الذي ذكرته، ثمَّ مازالت تلحُّ عليَّ حتّى أخبرتها بما وقع له، فهدأت ثمَّ قالت: وهل تخوَّفت عليه الشَّيطان يا حليمة؟ فقلتُ: نعم. فقالت: كلاَّ، والله ما للشَّيطان عليه من سبيل، وإنّ لابني لشأنًا، فهل أخبرك خبره؟ فقلتُ: بلى.

قالت: رأيت -حين حملت به- أنّه خرج منِّي نورٌ أضاء لي قصور بصرى من أرض الشّام؛ ثمَّ إنِّي حين ولدته نزل واضعًا يديه على الأرض، رافعًا رأسه إلى السَّماء. ثمَّ قالت: دعيه عنك، وانطلقي راشدةً، وجزيت عنّا وعنه خيرًا.

فمضيت أنا وزوجي محزونين أشدَّ الحزن على فراقه، ولم يكن غلامنا بأقلَّ منّا حزنًا عليه وأسىً ولوعةً على فراقه).

وبعدُ؛ فلقد عاشت حليمة السَّعديَّة حتّى بلغت من الكبر عتيًّا، ثمَّ رأت الطِّفل اليتيم الذي أرضَعتهُ، قد غدا للعرب سيِّدًا، وللإنسانيَّة مرشدًا، وللبشرية نبيًّا. ولقد وفدت عليه بعد أن آمنت به وصدَّقت بالكتاب الذي أُنزل عليه، فما إن رآها حتّى استطار بها سرورًا، وطفق يقول: أُمِّي، أُمِّي. ثمَّ خلع لها رداءه، وبسطه تحتها، وأكرم وِفادتها أبلغ الإكرام، وعيون الصَّحابة تنظر إليه وإليها في غبطةٍ وإجلالٍ صلوات الله وسلامه على محمَّد البرِّ الوفيِّ، صاحب الخلق الكريم، ورضوان الله على السَّيِّدة حليمة السَّعديَّة ظئر النَّبيِّ العظيم ﷺ.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة