بدأت فكرة إنشاء دولة صهيونية برجل واحد. نعم، واحد تبعه بعض الرجال؛ استطاع بفكرته أن يغير تاريخ المنطقة بل وتاريخ العالم وتزويره.
تيودور هرتزل؛ هو يهودي مُجري يعمل في صحيفة في النمسا، عندما بلغ 35 سنة ألّف كتابًا أسماه: كتاب الدولة اليهودية، طرح به فكرة إنشاء دولة لليهود في العالم، حيث كانوا في ذلك الزمان مشتتين في كل بقاع الأرض؛ في روسيا، إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، شرق أوروبا، الحبشة، أمريكا، في البلاد العربية، وفي أماكن كثيرة جدًا، مشتتون تمامًا، ويعاملون باضطهاد ملحوظ في معظم بلاد العالم؛ إلا في الدولة العثمانية.
كان التشتت والضياع ظاهرًا بين اليهود؛ ففكر هرتزل بإنشاء دولة يهودية، لكنه احتار في أي مكان سيتم ذلك وفكر في أماكن كثيرة، واحدة منها فلسطين.
ففكر وسعى لتكوين الدولة في ليبيا، وموزنبيق، وأوغندا وغيرها ثم انتهى الأمر إلى فلسطين؛ لكونها مثوى لداوود وسليمان عليهما السلام، وأرض الميعاد لليهود كما جاء في توراتهم؛ لذلك ففكرة إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين هي دينية عقائدية على الرغم من أن تيودور هرتزل كان رجلًا علمانيًا لا يتمسك باليهودية أبدًا، ولكن فعل هذا حتى تكون القضية من منطلق ديني؛ فيسهل بذلك استقطاب اليهود في كل العالم نحو هذه البقعة لمكانتها، علاوة على كون فلسطين مركزًا لقوى العالم وطريقًا لالتقاء أوروبا وآسيا وأفريقيا، وموقعها المتوسط الذي يسهل للجميع الوصول إليها، وغيرها من الأسباب.
كان عدد اليهود في تلك الآونة قليل جدًّا في فلسطين؛ فوضعت الخطط لبدء الاستيلاء عليها، ومنها:
- تشجيع اليهود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستخدام الدين في ذلك، وروّج لهذه الفكرة عبر الإعلام والجرائد، وسُعي إلى تأسيسها في النفوس وحُرِّض اليهود عليها.
- تنظيم يهود العالم كافة وربطهم سويًّا في رابطة واحدة، يفكرون تفكير واحد؛ فتم عقد مؤتمرات دورية لتحقيق هذا، وإنشاء جمعيات ماسونية سرية جُعل لها فروعًا في العالم سموها بغير أسمائها تمويهًا لها، كأندية الروتاري والليونز.
- البدء بتعليم اللغة العبرية لليهود في العالم بجانب لغتهم الأصلية؛ لأن اللغة هي الأساس لتكوين دولة.
- السعي إلى الاعتراف الدولي؛ فلجأوا إلى عدة دول، منها: إنجلترا، ألمانيا، روسيا، ثم إلى الدولة العثمانية التي كانت فلسطين تابعةً لها، وقد كان للدولة العثمانية الفضل على اليهود بضمّ مشرديهم، خاصة بعد سقوط الأندلس، لكن اليهود -كما هم دائمًا- لم يرعوا حقًّا ولا جميلًا، وسعوا مرارًا إلى طلب شراء أرض فلسطين من الدولة العثمانية، وللهجرة إليها، وقد رُفضت طلباتهم، واتخذت الدولة العثمانية لمنع ذلك وسائل عدة وشددت عليهم وعلى من يدخل فلسطين.
حاول ثيودور هرتزل كثيرًا مقابلة سلطان المسلمين عبد الحميد الثاني مرة وثانية وثالثة؛ حتى نجح أخيرًا وقابله ليعرض عليه عرضًا عجيبًا، وهو أن يعطي رشوة مالية للسلطان، ويسدد ديون الدولة العثمانية التي كانت عليها، ويبني أسطولًا لحمايتها بتكاليف باهظة، ويبني جامعة عثمانية إسلامية في القدس، وغيرها…
ستة عروض ضخمة يسيل لها لعاب أي رجل من حكام الأرض في ذلك الوقت، لكن السلطان نظر إلى كل هذه العروض وقال: (على تيودور هرتزل ألا يتقدم خطوة واحدة أخرى في هذا الشأن، لا أستطيع بيع بوصة واحدة من البلد؛ لأنه ليس ملكي بل ملك شعبي، لقد أوجد هذه الإمبراطورية وغزاها بدمه، وسنغطيها مرة أخرى بدمائنا قبل أن نسمح بتمزيقها، يستطيع اليهود أن يوفروا ملايينهم حين تقسم الإمبراطورية قد يأخذون فلسطين مقابل لا شيء، لكن لن تقسم إلا على جثثنا؛ لأنني لن أسمح أبدًا بتشريحنا ونحن أحياء)؛ ثم طرده، وأعاد هرتزل طلب اللقاء مرارًا ولكن السلطان رفضه رفضًا تامًّا؛ فتكونت قناعة لدى اليهود بأن سقوط الدولة العثمانية شرط أساسي لقيام دولتهم، وقد قال ذلك هرتزل في مذكراته.
وكما أرسل اليهودي شاس بن قيس فتى من اليهود ليزرع الفتنة بين الأنصار رضي الله عنهم، أرسل تيودور هرتزل أوامر إلى الجمعيات الماسونية السرية الموجودة لمؤامرته الكبرى، منها: قنصليات غربية كثيرة موجودة في تركيا مخبأة تحت ستار جمعيات خدمة البيئة والمجتمع وجمعيات الروتاري واللاينز بأن يفعلوا ما يأمر به.
وشاركت في المؤامرة قنصليات أخرى أيضًا، أشهرها: إنجلترا وفرنسا وإيطاليا والنمسا، وبدأوا بدعوة الناس في تركيا إلى نبذ معاداة القوى العظمى في الغرب، وترك السباحة ضد التيار، وعدم الرضى بالخضوع لسيطرة العرب، والدعوة لتحديث تركيا، والانطلاق إلى الحضارة الغربية، وترك التخلف والرجعية -ويقصدون بذلك الإسلام-.
وأخذوا بتلميع القادة خاصة من كان في الجيش ممن كان يؤمن بما يدعون إليه، وزاد التغريب عندما وعدوا تركيا بالحكم إن هم تخلصوا من العرب واكتفوا بالأتراك؛ فأُنشئت جمعية الاتحاد والترقي وأعلنوا مبادئها الثلاثة: الحرية، العدالة، والمساواة.
فعظموا من القومية التركية دون العرب، وانتقدوا السلطان والإسلام ولكن بخبث وحذر، ثم فعلوا مع العرب نفس الخديعة بدهاء ومكر؛ فانتشرت الأفكار القومية والعصبية بين الناس، ولم يفرح هرتزل باكتمال مشروعه حتى هلك عن عمر يناهز الأربعين وقامت قيامته بعد أن أسس دعائمًا قوية لأفكاره، وخلفه زعماء اليهود.
قامت ثورات عديدة ضد السلطان عبد الحميد حتى تم عزله بقرار سلمه إياه ثلاثة رجال أحدهم يهودي، ووضع بدلًا عنه سلطانًا ضعيفًا يتحكم به حزب الاتحاد والترقي؛ فقُررت قرارات عديدة لصالح اليهود، من سماحٍ لهم بدخول فلسطين، والهجرة، وعزل حكام فلسطين الكارهين لليهود وتولية غيرهم، وغيرها من السياسات.
وهكذا توالت الهزائم على الدولة العثمانية بعد زجها في الحرب العالمية الأولى، وبدأت الولايات تحتها بالتمزق والضعف، وجرت معها كارثة عظيمة وهي اتفاق الشريف حسين حاكم مكة العربي مع مكماهون الإنجليزي لإسقاط النظام الحاكم الإسلامي مقابل مملكة للعرب يحكمها الشريف حسين وغيرها من الوعود السخية من الإنجليز.
فكانت الثورة العربية الكبرى كما يقولون على الظلم والاستبداد واحتلال الأتراك للعرب، وتحركت الجيوش العربية بمساعدة الحلفاء لأجل ذلك. ثم بعد شهور قليلة من هذه الاتفاقية وقعت معاهدة سايكس بيكو بين إنجلترا وفرنسا، واتُّفِق على تقسيم أملاك الدولة العثمانية وأن تصبح فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي بدلًا من فرنسا، ثم لحقها وعد بلفور؛ وبلفور هو وزير خارجية بريطانيا آنذاك، حيث أرسل خطابًا إلى اللورد اليهودي وعد فيه ببذل خير المساعي لتحقيق دولة لليهود في فلسطين، ووافقت عليه الدول العظمى بعد عدة أشهر.
وفي هذه الأثناء، ظهرت شخصية كانت معولًا لهدم الخلافة العثمانية: مصطفى كمال، الملقب بأتاتورك أو أبو الأتراك، قائد الجيش العثماني في فلسطين، وكان عضوًا في جمعية الاتحاد والترقي، مشبعًا بكلّ أفكارها العلمانية.
وقد قامت إنجلترا حينها بتدبير معركة بين تركيا واليونان، وتدخل في صف اليونان، ويأتي حينها مصطفى أتاتورك ويقاتل اليونان وإنجلترا المنتصرة في الحرب العالمية فينتصر عليهما. ولم يسجل في هذه المعركة مقتل رجل واحد من كلا الطرفين، وتنتشر هذه الأخبار ويلمع مصطفى أتاتورك ويصعد إلى كرسي الحكم، ويعزل السلطان عبد المجيد بن عبد العزيز، وتستقل تركيا بهذا وتعلن انتهاء الخلافة الإسلامية؛ وهي لأول مرة تلغى منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قام أتاتورك بفصل الدين عن الدولة، وألغى كل معالم الدين والحجاب والأذان باللغة العربية والاحتفال بالأعياد، وأباح الردة عن الإسلام وأعدم كثيرًا من علماء المسلمين، ونص في الدستور على أن تركيا دولة علمانية.
ثم بدأت مرحلة تهويد فلسطين تحت رعاية إنجلترا، وبدأ تهجير اليهود إليها تدريجيًّا وعلى أوقات مختلفة، وبُذلت شتى الوسائل لتمليك اليهود الأراضي في فلسطين، والسعي للسيطرة على الاقتصاد والتعليم والإعلام فيها.
وكانت طليعة المهاجرين من اليهود عبارة عن جيش مدرب في أوروبا، وتأسست في فلسطين مجموعة من العصابات اليهودية كالهاجاناه وأرغن وشترن، وكانت إنجلترا تمدهم بالسلاح والتدريب في معسكراتها، وتهدي إليهم قطعًا من الأراضي الفلسطينية، وتدافع عنهم وتقف بصفهم إن هاجمهم الفلسطينيون، الذين كانت تسميهم بالإرهابيين.
وقد أدرك الفلسطينيون ذلك، فقامت العديد من الثورات التي ظل طابعها سلميًّا لفترة من الزمن، حتى أخذت الثورة طابعها الجهادي الأصيل عندما دخل عز الدين القسام فلسطين؛ وهو سوري الأصل، جاهد فرنسا في سوريا حتى حكم عليه بالإعدام، فجاء إلى فلسطين وجاهد فيها.
وكوّن جماعة سرية كبرت مع مرور الأيام، وأعلن ثورةً مسلحةً وعمره يناهز الستين عامًا، وفي غضون أقل من شهر استشهد -تقبله الله-، إلا أن فكره لم يمت؛ بل أشعل فتيل الجهاد في قلوب الفلسطينيين، وكانت وصيته: (ليبع أحدكم كل شيء يملكه، وليشترِ السلاح).
بعد الحرب العالمية الثانية أُنشئت الجامعة العربية برعاية بريطانيا، والتي كانت تدعو لتجمع المسلمين على أساس قومي لا إسلامي واستقصيت فلسطين منها. وهكذا توالت الأحداث لتنتهي بقرار تقسيم فلسطين عام 1947م بين اليهود وأهل البلد، وجعلوا لليهود أكثر من النصف، وجُعل حكم القدس دوليًّا، وصوتت الأمم المتحدة على القرار، وثارت الشعوب وأصدرت الجامعة العربية قرارات لصالح فلسطين، وما لبثت أن تراجعت عنها بعد تصريح بريطانيا بأنها غير ودية.
وثار المسلمون بقيادة أمين الحسيني وجيش الإنقاذ، وأُنشئ الجيش العربي وحاصروا اليهود في القدس، ثم تحرك مع اليهود الإنجليز، فحاصر اليهود عبد القادر الحسيني الذي استغاث بحكام العرب، ولم يجد إجابةً، وما إن مرّت ثلاثة أيام إلا وقد دخل اليهود وقتلوا المجاهدين فيها.
ثم حصلت بعدها مجزرة دير ياسين وذبح اليهود أهل القرية، ومثلوا بهم، ورموهم في بئر القرية، وقد أُعطي قائد هذه المجزرة جائزة نوبل للسلام!
ثم وقعت مجزرة قرية ناصر الدين، وهكذا توالت المجازر حتى أعلن عام 1948م قيام دولة إسرائيل في فلسطين وعُيِّن ابن جوريون رئيسًا لها، وانسحبت بعد الإعلان مباشرة القوات البريطانية منها معلنة انتهاء الانتداب، وبعد إحدى عشرة دقيقة من الإعلان أعلنت أمريكا اعترافها بإسرائيل، واعترف الاتحاد السوفيتي بها في اليوم التالي.
وكان المجاهدون يقاتلون في فلسطين في تلك الأثناء، واجتمعت الجامعة العربية وقررت بقيادة الملك عبد الله ملك الأردن بحلّ جيش الإنقاذ تحججًا بعدم وجود التناسق، مع أنه كان هناك جنرال إنجليزي ضمن قادة الجيش الأردني! ودخل الجيش العربي ليحارب، وحرر المناطق التي كانت في الأصل ضمن ما قسمته الأمم المتحدة للفلسطينيين، ولم تكن هذه الحروب لتحرير فلسطين، بل -كما ذكر الجنرال الإنجليزي- كانت لضم الضفة الغربية للأردن.
وبعدها اتفق على هدنةٍ، وأُدخل السلاح لليهود المحاصرين خلالها، وكانت بمثابة إنقاذ لهم من خسارة عظيمة. ثم قررت الجامعة العربية الانسحاب من مناطق اليهود في التقسيم الجائر، واتفق على هدنة أخرى وأُمر الجيش العربي باعتقال المجاهدين المسلمين ممن ليسوا ضمن الجيش، وبحل تجمعهم وقتل قائدهم لأنهم يهددون الهدنة كما يزعمون، الهدنة التي لم يلتزم بها اليهود بل نقضوها مرارًا.
ثم عقدت معاهدة رودس، بتوسط من الأمم المتحدة تنصُّ على هدنة دائمة بين الاحتلال والدول المجاورة له، مصر ولبنان والأردن وسوريا، ولكن سوريا رفضت ذلك، فدبر لها انقلاب داخلي، وأول قرار تمّ بعد نجاح الانقلاب كان: الهدنة الدائمة مع الاحتلال.
وهكذا أخذ الاحتلال 78% من فلسطين بما فيها القدس الغربية، وقسمت بقيتها: جزء غزة تحت حكم مصر، وجزء الضفة الغربية تحت حكم الأردن، وبهذا انتهت أكثر من خمسين سنة من التخطيط لقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، واستمرت ولا تزال مستمرة جرائم الاحتلال الإسرائيلي عليهم من الله ما يستحقون وعلى كل من ساندهم قديمًا وحديثًا.