إنّ من أشدّ ما يُخاف على المرء من دخول المؤسسات التعليميّة المختلطة -وأخصّ بالذّكر المرحلة العليا منها وهي الجامعة-؛ هو التعلّق بالدّنيا واقتصار النّظر والأهداف على محيطها.
من لحظة دخول أحدهم إليها؛ بل وما يسبق ذلك من سنين طويلة إعدادًا للالتحاق بها، يبرمجون عقله ويشغلونه للاهتمام بنصيبه من هذه الدّنيا فقط.
بِدءًا من المرحلتين الابتدائيّة والإعداديّة، وحثّه لتحصيل العلامات العالية فيهما، لماذا؟ حتى يكون متفوّقًا متميّزًا على أقرانه. ثمّ المرحلة الثّانويّة، وتحذيره من الفشل في أيّ من الاختبارات النهائية، أو تحصيل أقلّ من ممتاز فيها، لماذا؟ حتى يدخل في أعلى الجامعات، وفي الموضوع الأكثر طلبًا في ظلّ الهيمنة الرّأسماليّة. ثمّ الجامعة، ينكبّ فيها بكلّ ما فيه؛ للدّراسة ثمّ التّخرج منها بألقاب مختلفة، لماذا؟ حتى يكون له اسم في المجتمع، ولكي “يحترمه” النّاس ويقدّروه.
وهكذا وإلى آخر حياته، يبقى يصارع هذا المسكين لينال نصيبًا ممّا سيفنى، منشغلًا عن آخرته، بعيدًا عن تحقيق ما وُجد لأجله وخُلقَ له.
ولا يُنكر عاقل؛ حتميّة بُعد القلب وحصول تعلّق -ولو بعض من أجزائه- بغير خالقه عزّ وجلّ، لمن دخل فيها، وتشرَّبت نفسه ما يدعونه إليه، ويكرّرونه يوميًّا كالتّرانيم؛ من حبّ الدّنيا والتطّلع لها والسّعي لتحقيق النّعيم فيها. هذا ولا ننسى أن نذكر؛ وجود المنكرات، وحصول التّجاوزات، والاعتداءات لحدود الله جلّ جلاله، والجرأة على حرماته ونواهيه، والمجاهرة بكلّ ذلك، والذي باتَ جزءًا لا يتجّزأ منها.
وأضف إلى ما سبق، الدّعوة للكفر الصّريح؛ من العلمانيّة، الإنسانويّة، احترام الأديان والأشخاص ولو كانوا يلحدون بالله العظيم، وتلميع منهج النسويّة والتّرغيب فيه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ لا يَشهَدونَ الزّورَ وَإِذا مَرّوا بِاللَّغوِ مَرّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]، وعد الله المتّصفين بهذه الصّفات من عباده أعلى منازلِ الجنّة، “وهم الذين لا يحضرون الباطل؛ كمواطن المعاصي، وإذا مَرُّوا باللَّغو من ساقط الأقوال والأفعال مَرُّوا مرورًا عابرًا، مُكْرِمين أنفسهم بتنزيهها عن مخالطته”.
إذ لا بدّ لمُخالِط الشّيء؛ أن يوقر في قلبه منه ولو أقلّ القليل، وإن استكثر من مخالطته؛ يصير لاعتياده وألفه أقرب، ولإنكاره أبعد، ولفعله أرغب، ولمحبّته أرسخ.
وهل بعد حبّ المعصية واعتيادها، بعد أن كان منكرًا لها مبغضًا لأهلها؛ من مصيبة؟ وهل بعد انشغال القلب بما مصيره الزّوال، بعد توقِه لما عند الرّحمن؛ من بليَّة؟ وهل بعد فقدان البوصلة والتأثّر بالمناهج الفاسدة، بعد أن كان موحّدًا لله على الملّة الإبراهيميّة، من طامّة؟
ومن النّاس من إذا شرحت له ما سبق، لعلّه يعي ويفهم، ويرى ويُبصر؛ يستشهد بنموذجين أو ثلاث ممّن عُرفوا بالالتزام؛ سلّمهم المولى برحمته وفضله، لم يؤثّر عليهم ما ذُكر، ولم يفتنهم بريقُ ما يلمّعونه له.
وهل يأمن أحدكم نفسه؟ أَوَمنكم من ضمن ثبات قلبه؟ أهُناكَ من تيقّن سلامته من الحور بعد الكور؟
وقد كان من غُفِرَ ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وقُرنَ اسمه باسم المولى جلّ جلاله، ورُفع ذكره، وكانت طاعته من طاعة خالق الأرضِ وما عليها؛ يُكثر من قول: “اللهمَّ يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبِي علَى دينِك” صلوات ربّي وسلامه عليه. فما منبع هذا الأمنِ واليقين بعد ذلك؛ إلا الجهل؟
وقد جازفَ أُناسٌ قبلكم بدينهم لتحصيل عرضٍ من الدّنيا قليل، فقد أَخبرنا السّلف عن من تزوّج من خارجيّة أعجبته؛ عازمًا على أن يهديها إلى الحقّ، فجرّته هي إلى باطلها. وأُخبرنا عن من كان عابدًا مجاهدًا هوى قلبه لنصرانيّة، فارتدّ وتنصّر.
إنّ من عرَفَ الله جلّ وعلا، وذاق حلاوة الأُنس به، واطمئنان القلب بذكره، وتحرّره من أغلال الشّقاء والذّل بتحقيق العبوديّة والخضوع له وحده؛
خافَ على نفسه أشدّ الخوف، ورهبَ من التعلّق بغيره، وامتعضَ من مجرّد فكرة انشغاله عن آخرته، وما يُعلي ذكره عند مولاه بما هو دونه.
ثمّ أوّل عقبة على المرء تخطّيها؛ حصر العِلم بدخول الجامعات والمؤسّسات، فالعلمُ بحرٌ واسعٌ؛ وطرُقُ تَلقِّيه -خاصّةً في عَصرِنا هذا- كَثيرَةٌ ومُتنَوِّعةٌ. بِدءًا بالكتب، وُصولًا إلى الدّروس السّماعيّة، والمقاطع المرئيّةِ… ومَن كان أمرُ الحصولِ على شهادةٍ يؤرِقُهُ ويحتاج له؛ فإنّ ذلك أيضًا باتَ متوفّرًا؛ من خلال الدّورات المُقامة عبر الشّبكة من المنزل في كافّة العلوم والفنون.
وهنا لفتة مهمّة؛ حصر السّعي للقمة العيش والأخذ بالأسباب: بتحصيل شهادة فقط؛ هو تضييق ما أنزل الله به من سلطان، فلا تُضيّقوا على أنفسكم ما وسّعه الله عليها، ولا تُثقلوا عليها بِما لم تُؤمر به.
ولتوقنَ قلوبكم؛ أنّ رزقكم من عند الله عزّ وجلّ، لن تزيده شهادة جامعة مرموقة، كما لن تنقصه شهادة دورة عبر الشّبكة، أو حتّى عدم شهادة، فلا تعلّقوا قلوبكم بالأسباب بل علّقوها بربّ الأسباب، وحدّثوا نفوسكم وُسعَ كرمه، وفيضَ جوده وعظيمِ قدرتِه ورحمَتهِ، ولا تنسوا قوله عزّ وجلّ: «أنا عند ظنّ عبدي بي»، فليكُن ظنّكم بهِ كبيرًا يليق بجبروته وعظمته وقُدرتهِ التي تدور بين “كُن” فَـ “يَكُون”.
طالمَا توكَّلتَ وسعَيتَ أبشِر بالرّزق والبركة.
﴿فَسَتَذكُرونَ ما أَقولُ لَكُم وَأُفَوِّضُ أَمري إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصيرٌ بِالعِبادِ﴾ [غافر: ٤٤]