يشعرك الواقع أننا الآن في مرحلة نزع الدنيا من القلوب، مرحلة ثقيلة؛ فالرعيل الأول حين نُزعت الدنيا من قلوبهم، لم تكن مفتحة لهم أبوابها على مصارعها منذ بالبداية؛ بل كان كما قال سيدنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لكسرى: (كنا في شقاء شديد وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، وتلبس الوبر والشعر، ونعبد الحجر والشجر، وبينا نحن كذلك إذ أرسل رب السموات والأرض لنا رسولا من أنفسنا …) إلى آخر الحديث وهو في صحيح البخاري.
أما نحن؛ فالدنيا شرعت أبوابها، حتى غصنا في أوحالها. فالنزع منها ثقيل شديد؛ لكن يهونه تذكر المآل والمصير، وأن هذه إرهاصات تمكين خلافة على منهاج النبوة كما بشرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فبعد الجبرية لن تكون إلا تلك الخلافة.
روى الإمام أحمد في “المسند” عَنِ حُذَيْفَةُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ”.
تخرج الصحابة رضوان الله عليهم من مدرسة النبوة، بعدما اكتووا بنار الظلم والاضطهاد، والتي ما زادتهم إلا قوة وصلابة، كالذهب الذي لم تزده النار إلا تطهيراً ولمعاناً، فتجرعوا الصبر حتى تشبّعوا به، وتجرعوا الجلد حتى فاض، كذلك الثبات والإقدام، وما زادهم هذا كله إلا يقيناً وإيماناً، ورغبة فيما عند الله عز وجل.
ألا يكفينا أن نبصر أننا قد وضعنا أخيراً على بداية طريقهم، نراهم في نهايته مستبشرين بنا؟ ليتنا نعقل أن لا سبيل لنا إلا أن نطلق الدنيا ثلاثاً، ونسعى على ذات الطريق بتثبيت الله عز وجل وتسديده، فنهاية الدنيا معروفة على أية حال، والسعيد من وعظ بغيره.