ما فتحنا نوافذ مواقع التواصل إلا وتهافتت إلى أبصارنا وأسماعنا أخبار أهلنا في غزة، ومن شدة تكرار المشاهد المؤلمة، والمجازر الفظيعة وقصص الفقد المروّعة؛ يخشى المسلم أن تعتاد نفسه المشهد، ويحزّ في نفسه أن ينسى معاناة إخوانه بين طيات حياته اليومية، وأشغاله التي تملأ يومه عن آخره.
يحاول في عز انشغاله سرقة ثوان على الأقل يشاهد فيها أخبار إخوانه المؤلمة، ليحيي قلبه ويشحذ بها همته؛ كي لا يفتر عن الدعاء لهم، ويحرض نفسه على ما يستطيعه من وسائل النصرة المتاحة، وقلبه يتألم ويبكي مصاب إخوانه، وتوالي النكبات عليهم ، وخذلان العالم لهم. يودّ لو يفديهم بنفسه، بماله، بأرضه، يتمنى لو يستطيع أن يكفيهم الجوع والعطش على الأقل، أن يرسل لهم طعامه وشرابه الذي يكفيه ويزيد!
تحزنه طوابير إخوانه لتحصيل شربة ماء و لقمة طعام، يجزعه عدم قدرته على فك الحصار عنهم. كيف يحدث لهم هذا، و هم بين أهلهم و إخوانهم، لا تفصلهم عنهم سوى حدود بائسة، يتحكّم بها خائنو العهود الذين لا يرقبون في مسلم إلاً و لا ذمة؟
يتذكر ويبكي على كل مرة شكى فيها وتذمّر من حياته الرتيبة ويومياته التي كان يتململ منها، يبكي نفسه التي لم تدرك عظمة النعم التي ترتع فيها ولم تشكر نعم الله كما ينبغي، حتى رأى قارورة الماء في ثلاجته و جدران بيته البسيط أمنية عظيمة بعيدة المنال لشيخ غزّاوي نازح بنصف أهله، و ناعياً النصف الآخر، ورجل لا يجد ما يسد به رمق أبنائه الصغار وامرأته الحامل، و غيرهم من الغزاويين.
هذه الحرب لم تترك درساً في المبادئ و القيم إلا عرضته لنا في أوضح صورة، عرضت لنا صور الصبر والثبات العظيمة التي تعجز النفوس عن تخيلها، لولا ما كشفته وقائع الحرب، ووثقته آلات التصوير صوتاً وصورة، و كلّ من له قلب قد علم عِظم نعمة الأمن والقوت، و عرف كم قصّر في جنب ربّه وكم كفر بنعمه وأهمل شكرها.
فيا سعد من أيقظت قلبَه هذه المحنة، ودفعت به للإنابة إلى ربّه، وحملته مشاهد الصبر والثبات على مراجعة نفسه، والافتقار إلى مولاه، وتعظيم نعمة العافية؛ فاستيقظ من غفلته وقرّر أن يعود إلى روضة الإيمان ويشدّ حبال دينه التي ارتخت، فهذه سنين طوال من عمره قضاها في لهو ولعب، مغروراً بمتع الدنيا وزخرفها، ولعله الآن سيفيق، ويصلح حاله إذا كان له قلب حيّ!
