الدعوة والإصلاح وتغير حال المسلمين، من أهم الأمور في هذا الزمان؛ فأعداء الإسلام تكالبت علينا بكل مكان وبشتى الطرق والوسائل. ومن الدروع التي نستطيع صدهم بها هي الكتابة، والكتابة إذا ابتغي بها وجه الله، وسعى صاحبها للإصلاح، ودرأ الفساد في عصر امتلئ بالشبهات والشهوات؛ فهي ثغر عظيم واختيار حكيم.
وهذا الزمان قد كثرت فيه الملهيات، والفتن، والعلاقات المحرمة، والتفاهات، ونحتاج لمن يصلح ويسد هذا الثغر، ويدعوهم لله، ويرشدهم، وينير أبصارهم بالحق. فالأفكار الغربية، تتسلل لمجتمعاتنا المسلمة، رويدًا رويدًا، من الأفكار النسوية، والذكورية، والعري، والتبرج، وحقوق المرأة المزعومة، إلخ.
كلها تحتاج لمن يسل قلمه ليقاتلها وليوقف هذا المرض المتفشي، قبل أن يتكاثر عند المسلمين فيدمرهم.
والدعوة بالكتابة لها شان عظيم بديننا، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لَمَّا اشْتَدَّ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجَعُهُ قَالَ: “ائْتُونِي بكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ”، قَالَ عُمَرُ إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: “قُومُوا عَنِّي، ولَا يَنْبَغِي عِندِي التَّنَازُعُ”، فَخَرَجَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَ كِتَابِهِ.
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ما مِن أصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثًا عنْه مِنِّي، إلَّا ما كانَ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو؛ فإنَّه كانَ يَكْتُبُ ولَا أكْتُبُ.
ويقول الخطيب البغدادي -رحمه الله- عن قوله تعالى:
﴿وَلا تَسأَموا أَن تَكتُبوهُ صَغيرًا أَو كَبيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُم أَقسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدنى أَلّا تَرتابوا﴾ [البقرة: ٢٨٢]:
(فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظًا له، واحتياطًا عليه، وإشفاقًا من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظُهُ أصعب من حفظ الدين، أحرى أن تُباح كتابَتُهُ، خوفًا من دخول الريب والشك فيه).
والكتابة أصلًا في الكتب الإلهية، فهي قد نزلت مكتوبة لتبقى محفوظة كما نزلت.
والكتابة أقوى حجة؛ فالحجَّة بالمكتوب أقوى من المحفوظ. فلما كذب المشركون وادعوا بُهتًا اتخاذ الله سبحانه بنات من الملائكة، أمر الله نبينا ﷺ أن يقول لهم،
﴿فَأتوا بِكِتابِكُم إِن كُنتُم صادِقينَ﴾ [الصافات: ١٥٧].
والكتابة اثرها ممتد لقيام الساعة، فالكتب التي أُلفت في زمن التابعين إلى هذه اللحظة مقيدة في دفات الكتب، نتعلم منهم وننهل من ينبوع معرفتهم، وكم من العلم لا يزال أسير بطون الكتب.
وإنَّ من يبلغ بالقول يبلغ أناسًا بوقته وزمانه، على عكس الذي يبلغ بالكتابة، فهو يبلغ أناسًا بشتى بقاع الأرض وأجيالًا لم تولد بعد.
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: (الكتابُ يبلُغُ مالا يبلُغُهُ الخطاب، وهو باقٍ وصاحبه مُوَسَّدٌ تحتَ التُّراب)، وقال أيضًا: (تصنيفُ العالِمِ وَلَدُهُ المُخَلَّدُ).
يقول ابن خلدون -رحمه الله-: (فهي -أي الكتابة- تَطَّلِعُ على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضى الحاجات، وقد دفعت مؤونة المباشرةِ بها، ويُطَّلعُ بها على العلوم، والمعارف، وصحف الأوَّلين، وما كتبوه من علومهم، وأخبارهم، فهي شريفةٌ بهذه الوجوه والمنافع).
وعلى الكاتب أن يكتب على علم وبصيرة، لكي ينفع ولا يضر، ويصلح لا يفسد. والكتابة ليست معلومات فقط؛ إنها حياة، وأنس، وعبادة لله سبحانه وتعالى. وكما قالت لنا الدكتورة ليلى حمدان: (الكتابة جهاد حين تخرج بين ازدحام المهام وتدافع أرتال الباطل).
ومما يميز الكتابة عن غيرها أن يجاهد بها، ويظهر بها الحق، ويدفع الباطل، فبهذا الزمن قد فشى فيه القلم. ولن تلقى الكتابة أثرها بالنفوس وقوتها بالدخول إلى القلوب، إلا أذا أُخلصت لوجه الله تعالى، وسعى صاحبها لسد ثغر، وتحصين فكر، وتغير واقع.
ولا يبخل الإنسان على نفسه بتقديم شيء لأمته، ولو بكلمات يساند فيها المستضفين أو يدفع بها ظلم، أو يبطل بها باطل وينكره، فكلمة الحق لا تحتاج أن تقال ببلاغة وبطريقة أدبية، يكفيه صدق وإخلاص مع علم، وربما كلمة حق تقال ترفع العبد درجات بالجنة.
وعلى الكاتب ألا يكتب للشهرة، أو ليقال كاتب فيحبط عمله؛ بل لينصر أمته، ويجعل قلمه كالرماح في قلوب أعداء الدين، وكالبلسم على المسلمين.
وختامًا؛ الكتابة هي روح صاحبها، فلا تتخلى عنه عندما يتخلى عنه ذويه؛ وتُبقي ذكراه حية بكلماته ومعانيه، فإن ماتت روحه؛ الكتابة تحيه.