الانبهار هو آفة تشوش التفكير وتغيب العقل وتستصغر النفس، فتختل الأحكام وتنحرف الوجهات. الانبهار؛ بذرة الشعور بالنقص بل وريه، ثم الشعور بالدونية ثم الانبطاح ولا تحدثني عن عزة بعدها. الانبهار آفة مدينتنا؛ فإن دققت النظر رأيت يده الطولى في حالة الخنوع التي نحياها.
الإبهار، يتم صناعته صناعة موجهة دقيقة، خلفه مراكز رصد ودراسات وتوجيه معنوي وآلات تسويقية جبارة. لا بد أن تنبهر؛ لتزداد عندك عقدة النقص، وتستصغر نفسك، ومن ثم تستصغر كل ما تنتمي إليه. لا بد أن تنبهر؛ فترى الآخر عظيم ضخم فخم لا يغلب ولا حتى يُغالب؛ فلا تسعى للانفكاك عنه أبداً، فضلاً عن مغالبته. لا بد أن تنبهر حتى يمكنهم طمس هويتك، وقتل خصوصيتك، ودفن معتقداتك.
مع أنك لو دققت النظر في سير الصحابة، خاصة من عرض له حضارة الفرس والروم؛ ستعلم أنهم حاولوا أن يلعبوا عليهم هذه اللعبة ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً؛ بل انقلبت عليهم خيبة وحسرة.
فذلك الفارس (ربعي بن عامر رضي الله عنه)، حينما تجهز له الفرس بإلباس ملكهم التاج الذي كان يُربط من الأعلى في السقف لضخامته، وأجلسوه على عرش، وصفوا الوسائد ومدوا السجاد وعرضوا الحرير والذهب والفضة وصنوف النعيم فقط ليبهروه! انظر ماذا كان رد فعل الأبيّ الذي شرب الإباء من الإسلام الحنيف: دخل بفرسه على السجاد، وكان يتعكز على رمحه؛ فيقطع البُسط، وربط داخل تلك القاعة الفخمة فرسه؛ ليرسل لهم تلك الرسالة القوية: (لا تحاولوا؛ لن أنبهر).
صحيح أنه لم ينطق بالكلمات؛ ولكنهم التقطوها من أفعاله التي قذفتها قوية مدوية. ليس هذا فحسب؛ بل انظر لكلماته وانظر للعزة والأنفة والإباء الذي يتساقط منها.
إليك الحوار:
دخل “ربعي” بفرسه على البُسُطِ (السجاد) الممتدة أمامه، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد بها ذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به، ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، ووقف أهل فارس في صمت، وكذلك رستم، وبينما هم يفكرون في جلوسه جلس على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه، وبدأ رستم بالكلام.
رستم: ما دعاك لهذا؟ (أي: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟).
“ربعي”: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.
رستم: ما جاء بكم؟
“ربعي”: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر.
رستم: قد تموتون قبل ذلك.
“ربعي”: وعدنا الله عز وجل أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا.
رستم: قد سمعت مقالتك (أي فهمت مقصدك)، فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟ فهو يطلب منه مهلة يفكر فيها.
“ربعي”: نعم، أعطيك كم تحب: يومًا أو يومين؟
رستم: لا، ولكن أعطني أكثر؛ إنني أخاطب قومي في المدائن.
“ربعي”: إن رسول الله قد سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث (أي ثلاثة أيام فقط حتى لا يتمكنوا منا ويتداركوا أمرهم)، فإني أعطيك ثلاثة أيام بعدها؛ اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية، وإن كنتَ لنصرنا محتاجًا نصرناك، وإن كنتَ عن نصرنا غنيًّا رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا (أي: أنا ضامن لك أن لا يحاربك المسلمون إلا في اليوم الرابع).
رستم: أسيِّدُهم أنت؟ (أي: هل أنت سيد القوم ورئيسهم حتى تضمن لي أن لا يحاربوني؟).
“ربعي”: لا، بل أنا رجل من الجيش، ولكنَّ أدنانا يجير على أعلانا. (فهو يقصد أن أقل رجل منا إذا قال كلمة، أو وعد وعدًا لا بُدَّ وأن ينفذه أعلانا).
وعاد رستم يُكلِّم حاشيته مرة أخرى..
رستم: أرأيتم من مَنطِقِه؟! أرأيتم من قوته؟! أرأيتم من ثقته؟! يخاطب قومه ليستميلهم إلى عقد صلح مع المسلمين؛ وبذلك يتجنب الدخول معهم في حرب. ولكنهم رفضوا ولجُّوا، وكان القتال، وانتصر المسلمون.
ليس هذا الموقف الوحيد في ذات السياق؛ ولكن يمكنك البحث عن مواقف مماثلة لسيدنا المغيرة بن شعبة، وسيدنا خالد بن الوليد، وسيدنا عمرو بن العاص، وسيدنا حذيفة بن محصن وغيرهم الكثير والكثير.
قد يبدو لك الأمر عادياً، فمثل هذه الأمور لا تبهرك الآن؛ لكنك لو عدت لسياقها التاريخي لعلمت أنها كانت وسائل إبهار غاية في القوة، لعلها تشبه في قوته ما يلقى عليك اليوم ليل نهار لذات السبب (لتنبهر)؛ لكن القلوب والنفوس الآن، ليست هي ذاتها في زمن العزة.
قد تقول أن الحضارة الإنسانية الحالية لم يصل إليها أي حضارة قبلها. سأقول لك دع كلمة الإنسانية جانباً، فأنت بنفسك لا تملك أي دليل على أنها إنسانية؛ بل الأدلة في الاتجاه المخالف أقوى.
ودعنا نناقش فكرة الحضارة نفسها، فما بظنك يستحق أن يطلق عليه حضارة؟ صناعة الإنسان وحفظه وحفظ كرامته ومكانته وأخلاقه؛ بل فضلاً عن حفظ نفسه ودمه؛ أم مجرد التطاول في البنيان والمادة مع تلك الحياة البهيمية التي تسيطر على العالم أجمع؟
هذه المادية والرأسمالية التي تبحث عن الخلود في الدنيا، وسيدركونه حتماً ولكن في الآخرة، كما أخبرنا ديننا الحنيف، الكافر يخلد في النار والمسلم يخلد في النعيم بفضل ربه.
استفق من وهنك وضعفك وإحباطك، فقد خلقت مسلماً عزيزاً، لا تنكسر أمام ذلك الوهم الذي لا يساوي حقاً جناح بعوضة.