دائماً في بداية كل عمل أو مشروع أو كتابة أو غيره؛ لا يمكن للإنسان أن يخوض فيه من غير أن يعرف أهدافه وثمراته وعواقبه. ولكي يبادر الكاتب ويُقبل على الكتابة، نذكر له إحدى عشر نقطة جمعت بها أهداف الكتابة التي يجب أن يضعها الكاتب نصب عينيه، وثمراتها التي نرجوا أن يخرج بها اذا أخلص لله، وعواقبها وأشواك الطريق الذي سيخوضه لكي لا يخدع.
١- النية:
على الكاتب أولاً أن يخلص النية لله وحده، وأن تكون كتاباته وقلمه لله، فإنما الأعمال بالنيات كما قال الرسول ﷺ: “إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّةِ، وإنَّما لاِمْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسولِهِ، ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ”. في الشطر الأول قال فهجرته إلى الله ورسوله، تعظيم للأمر، أما الشطر الثاني، فهجرته إلى ما هاجر إليه، احتقار وتصغير لأمر الذي هاجر إليه لغير الله، وكما قيل:
ألَا كُل شَيءٍ مَا خَلا الله بَاطِل
وكُل نعِيم إلَّا الجنَّة لا مَحَآلة زَائِل
٢- رضا الله:
أن يسعى الكاتب بكتاباته لإرضاء ربه، يصدق النية ويخلي قلبه من مفسداته ويحليه، ولا يسعى سوى لإرضائه والتقرب إليه، بإرشاد الناس وتوعيتهم وإنارة أبصارهم بالحق، فمتى ما رضي الله على عبده؛ أرضاه بالدنيا والآخرة، ويتجنب إرضاء الناس ولا يسعى لذلك، فإرضائهم غاية لا تدرك،
وما حاجة العبد إلا لرضى خالقه وكما قيل: “ما حَاجتي إلَّا رِضاك ومنزلًا، في جنَّّـةٍ من تحتـهِ الأنهـارُ”.
٣-الإصلاح:
في هذا العصر نحتاج وبشدة للمصلحين العاملين لدينهم، ومن منّ الله عليه، ووفقه للكتابة وأعطاه العلم، فليحرص على أن يستخدمها بما ينفع، كأن يدعو لله بكتاباته، وينكر المنكر، ويأمر بالمعروف، ويخمد صوت الباطل ويعلي كلمة الحق، وليكن قلمه منبره الذي يقف عليه، ليدعوا الناس لربهم.
٤- إبقاء أثر:
كل انسان بهذه الحياة يمضي لأجله، كان مدرك ذلك أو غفل عنه فهو آتيه لا مُحال، وأعظم الأعمال أجراً، ما يبقى نفعه ممتد إلى الآخرين، ويأتيك أجره وأنت في قبرك، فيجدر بالمؤمن العمل لترك أثر ينفع به الناس وينتفع هو به في آخرته.
وكما قيل:
يَفنَىٰ العِـبَادُ وَلَا تَفنَىٰ صَنَائِعُهُم
فَاختَرْ لِنَفسِكَ مَا يَحلُو بِهِ الأَثَرُ.
٥- الشفاعة:
الكتابة لا تتخلى عن صاحبها وإن تخلى عنه الأهل والصحاب، تحتضن هواجسه يوم يقول كلٌ نفسي نفسي، تنفعه ﴿يَومَ لا يَنفَعُ مالٌ وَلا بَنون، إِلّا مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩]، وتشفع له بقبره؛ لأنها من الأعمال الصالحة كما قال الرسول ﷺ: “ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجهِ حسنُ الثيابِ طيِّبُ الرائحةِ، فيقولُ: أبشر بالذي يسرُّك هذا يومُك الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقول له: من أنت فوجهُك الوجهُ الذي يجيءُ بالخيرِ؟ فيقولُ: أنا عملُك الصالحُ”.
٦- حي وإن مات:
كما ذكرنا مسبقاً أن الكتابة لا تتخلى عن صاحبها بالآخرة، فهي لا تتخلى عنه كذلك بالدنيا، تخلد ذكراه بكلماته وحروفه، فهذا يدعو له، وأحدهم يتصدق عنه، وذاك ينتفع بعلمه، وربما أثرت كلماته ببعض الأجيال الناشئة فكان قدوة لهم وأرادوا أن يصبحوا مثله، فالكتابة لا تترك صاحبها وإن انتزعت منه روحه. وكما قيل:
هَذه الحياةُ سَنحيَاها على أمَلٍ
ألا نغـادِرهـا مِـن غَـيـرِ مـا أثـرِ
٧- رفع الجهل:
الكاتب الصادق هو من يسعى بكتاباته أولاً لإصلاح نفسه ورفع الجهل عنها، فيكتب ليتعلم ويزداد معرفة وبصيرة، وليطبق ما يكتبه من نصح على نفسه أولاً، وليحذر كل الحذر ان يكون كما قال الرسول ﷺ عنهم: “يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ، فيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بهَا كما يَدُورُ الحِمَارُ بالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فيَقولونَ: يا فُلَانُ ما لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بالمَعروفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فيَقولُ: بَلَى، قدْ كُنْتُ آمُرُ بالمَعروفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ”.
٨- العمل بالعلم:
ليسَ المقصود من العلم إلا العمل، وماذا سينفعنا علمنا إذا لم نعمل به ونتقرب لله بما أمرنا به وننزجر عما نهانا عنه، ويزيدنا العلم خشية وقرب من الله ومعرفة بربوبيته وبأسمائه وصفاته؟ وكما قال ابن الجوزي: (فاللهَ اللهَ في العلم بالعمل؛ فأنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا وخيرات الاخرة، فقدم مفلسًا، مع قوة الحجة عليه). قالت أم الدرداء لرجل: هل علمت بما علمت قال: لا، قالت: فَلِمَ تستكثر من حجة الله عليك؟
وقال أبو الدرداء: ويل لمن لم يعلم ولم يعمل مرة، وويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرة.
٩- العلم قبل الكتابة:
مما ابتلينا به هذا العصر التكلم بغير علم، فنرى كثيراً من الناس التي لا تعلم شيئاً بدينها، تطعن بالعلماء الأفاضل، أو تحرم شيئاً فيه خلاف، أو يكتب شيئاً يضل الناس به بدل أن يصلح، وذلك لجهله وتفوهه بغير علم، لذا فليحرص الكاتب على طلب العلم وبناء نفسه والتفقه بالدين قبل أن يبحر في الكتابة، وإلا ستتخبطه الأمواج وربما تغرق سفينته.
١٠- علو الهمة:
لا يمكن للكاتب المثابرة على هذا الثغر إذا لم تكن همته عالية، فالهمة دافع للاستمرار، وإذا فقدها فسفينته ستوقف عن الإبحار؛ فالبحر هائج ويعصف بالأمواج على سفينته، وإذا لم يكن لديه العزم والجلد والهمة، سيغرق. والهمة شقاء لصاحبها؛ فهي لا تقنع بالمتاح، ودائماً تسعى للمزيد من العلم والخبرة والسعي والجهد، وإن تعبت النفس فالهمة لا تكل ولا تمل عن دفع صاحبها للمعالي. وكما قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية
وبلاء جسمي من تفاوت همتي
وقيل:
لولا المشقى ساد الناس كلهم
الجود يُفقر والإقدام قتَّــــــــــــــــــــــــال
١١- ثمن العلياء:
ختاماً، فليعلم الكاتب أن للوصول للعلياء ثمن سيدفعه لا بد، فلكي يصبح كاتب ويصل لمبتغاه؛ سيتعب ويطارد النوم، فهو يعمل بين كتابة وتنقيح وتأليف وسعي، وهو دائماً في نصب وتعب لا ينتهي، وكما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
واللذة تكمن بالتعب وليتذكر الآخرة والأجر العظيم الذي سيكتب له إذا أخلص، وليعلم أنها أيام قلائلُ سيرحل عنها ويبقى الأثرُ. وكما قال ابن القيم: (ليسَ للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبىٰ).
وليتذكر قول الشافعي:
يانفسُ ماهو إلَّا صبرُ أيـــــــــــــــــــــــــــــام
كأن مُدَّتَها أضغاثُ أحــــــــــــــــــــــــــــــــلام
يانفسُ جوزي عن الدنيا بعبادةً
وخلِّ عنها فإن العيش قُـــــــــدَّامي
وليعلم أن قول كلمة الحق في زماننا قد يكون ثمنها نفسه، فبسبب كلمة قد يسجن الإنسان كما حصل مع ابن تيمية رحمه الله مات وهو بالسجن، وكما حصل مع الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله والفتنة التي تعرض لها وتعذيبه بالسجن.
وبسبب كلمة قد يشتم، وبسبب كلمة قد يقتل، وأعداء الدين متربصون بنا بكل مكان.
وهل مات سيد قطب إلا لأجل كلمة الشهادة؟ أرادوه أن يتنازل عن هذه الكلمة للحظات فقط وإن كان قلبه يصدق بكل حرف ينطقه، وذلك لأنهم كانوا مدركين أن هذه الكلمة كفيلة لأن تستباح الدماء وتتناثر، وكفيلة بأن تدمر أفكار كانوا ينسجونها، وتهدم لهم مساكناً بقوا سنين يبنوها.
لكن مالذي جعل سيد قطب لا يتنازل عنها رغم أنه كان يحل له ذلك؟ أنها كلمة لا إله إلا الله، هي ما مدته بقوة الإيمان التي تجعل صاحبها صامد كالجبال أمام كل ما يلقاه، استمد القوة من الكلمة التي أرادوه أن يتخلى عنها. فلا تسأل بعد ذلك لِما لم يتنازل، فسنقلب السؤال إليك: أيتخلى الأنسان عن قوته؟
وبالنهاية فليتذكر الكاتب ما عاناه العلماء والمشايخ والناس التي تركت أثراً بنفوسنا، وليتعلم من صبرهم وقوة إيمانهم وثباتهم، ربما يصل للحقيقة أن الحياة لا تخلو من تكدير وأن الساعي للنهضة بالمسلمين سيدفع الكثير.