أرى كثيراً من النصائح الموجهة للأمهات بألا تتركي حقك ولا شيئاً منه لأطفالك، لا تجودي على أبنائك بشيء من نصيبك؛ سواء كان طعاماً أو شراباً أو وقتاً أو خلافه، عودي أبناءك على أن ما لك لا يمكن أن يأخذ أحد منه شيئاً وإلى آخره من تلك النصائح.
وتأتي التبريرات كالتالي؛ حتى لا تكوني مهمشة فيما بعد، حتى لا يعتادوا على استباحة ما لك، حتى تظل حقوقك محفوظة، حتى لا تكوني دائماً في نهاية قائمة الاهتمامات وغيره من تلك المبررات.
ومما هو واضح جداً، فساد المدخل وفساد التعليل، ولا أعلم أيهما يسبق الآخر فساداً؛ ولكن ما أتيقن منه، أن مدخلاً في التربية والمعاملات يهمش الوحي ويعتمد على عقل إنسان أيَّاً كان ذكاؤه وفطنته؛ فهو معطوب لا محالة، ذلك أن العقول والقلوب والنفوس والبيئات والظروف و…، تختلف من شخص لآخر ومن بيت لآخر ومن مكان لآخر …؛ فلا يمكن أن يسير الجميع في هذا وفق قواعد بشرية، لاسيما وقد أغنانا الوحي بقواعد متينة في فقه السلوك والمعاملات، حتى البسمة في الوجه والهدايا والحديث بين اثنين دون الثالث، وأبسط أبسط الأمور لم يهملها؛ فكيف بالأعظم؟
نعود للأم وحقوقها: إن حرصت الأم على أخذ حقها كاملاً دون نقصان طول الوقت، وإن تعنتت ألا يشاركها أحد فيما لها وألا تتنازل عن بعض ما لها لأجل أبنائها، فكيف سيتعلم هؤلاء الصغار الكثير من خصال وآداب وأخلاق دينهم مثل ( الإيثار، والإحسان، التسامح، والتغافر، والتغافل، الرحمة، الكرم… والكثير الكثير من ذلك)؟ كيف سنشرح لهم الكثير من الآيات والأحاديث التي تحض على المكارم؟ مثل – على سبيل المثال وليس الحصر-:
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}، {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)}، {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، ولَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، [وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ]” رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وغيره من الأحاديث والآيات.
إذن؛ كيف أزرع في الطفل أن لي حق وألا أكون مهمشة وأن يقدرني وإلى آخره من أمور؟
بزرع الدين ذاته فيه، وأن بر الوالدين جزء أصيل من الدين؛ بل إن الله عز وجل قرن الإحسان للوالدين بتوحيده في كتابه العزيز، قال تعالى:
{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}.
والكثير من الآيات والأحاديث التي تحض على بر الوالدين عموماً والإحسان إلى الأم خصوصاً.
لكن أن تعلميه الأنانية والمادية والفردانية بدعوى الحفاظ على مكانتك وحقوقك؛ فهذا الفساد الذي لا يُرجى بعده إصلاح!