تصفّحتُ يوماً مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة أحداث غزة، وقد كان الطوفان في بدايته. وبينما أنا أجول بين الأخبار هنا وهناك؛ إذ ظهر لي منشور في مجموعة دعوية كنت ضمن أعضائها، يُشِيد بالمقاومة ودورها في ردع الاحتلال الصهيوني. وقد هالني ذلك التعليق المستفز من إحدى الأخوات؛ إذ انكبت على رجال المقاومة سَبًّاً وطعناً وقدحاً، ينبئ عن حقد دفين.
فثارت ثائرتي ولم أتمالك نفسي، فرددت عليها؛ نصرة لمن تحمّل همّ الذّود عن شرف الأمة كلها، بينما نحن لا بضاعة لنا إلا الكلام الفارغ، والفلسفة الآثمة. فَقَلَّبَت بيتَ أفكارِها، ونبشَتْ فيه، علَّها تجد ما تفحمني به؛ فأتتني بِمَثَلٍ عجيب لم أسمع به من قبل.
تقول أن المحتل الصهيوني كمثل كلب نائم كُفِيَ الناس شره، فراح أولئك القوم يوقظونه من نومه؛ فثار وعاث في الناس عضاً ونهشاً؛ فلا هم قتلوه ولا هم كفّوا شره عن النّاس؛ فعلى من يقع اللوم إذاً؟
تفحصت المقال بناظري، وعجبت أن كيف يُحْجَبُ الحق وهو كالشمس في رابعة النهار؟ وكيف لعاقل أن يصدق مثل هذا المثل المتنصّل من الواقع، ولم يوافقه شرع ولا منطق؟
فالكلب لم ينم يوماً، ولا يزال ينهش الناس يمنة ويسرة منذ وطئ ثراهم قبل خمس وسبعين عاماً، وما هؤلاء القوم إلا رجال ذوي دين وحميّة، قد ساءهم ظلم الكلب الأهوج؛ فقاموا إليه يكْفُون الناس شره.
فليت شعري كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم أن يتعدّوا على حرمة المجاهدين الشرفاء، ويصدرون أحكامهم المتطرفة، ويبنون مواقفهم على مَثَلٍ لا يشبه الواقع في شيء؟ وكأنهم ما قرأوا يوماً ولا سمعوا عن عن السّجلِّ الأسود المليء بالمجازر الوحشية لهذا المحتل. ألا فليُقَلِّبُوا صفحات التاريخ؛ ليدركوا القهر والعذاب الذي تكبّده الشعب طيلة هذه السنين.
فيا طوفان العزة والكرامة، خبرهم عن مجزرة بلد الشيخ في حيفا عام 1947م، ومجزرة دير ياسين بالقدس، ومجزرة أبو شوشة بالرملة، ومجزرة الطنطورة عام 1948م، ومجزرة قبية برام الله عام 1953م، ومجزرة خان يونس عام 1956م، ومجزرة صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين بلبنان عام 1982م، ومجزرة الحرم الإبراهيمي بالخليل عام 1994م، ومجزرة جنين عام 2002م، وغيرها من المجازر.
خبرهم يا طوفان عن حرق مسجدنا الأقصى عام 1969م، واستباحة حرماته، والدعس عليها كلما بدا لهم ذلك.
فكم داسوا على رؤوس الساجدين، وكم منعوا صلاة العابدين، وكم قطعوا الطريق على المصلين، وكم دنّسوا بأقدامهم طهر المسجد، وأرعبوا أهله في خير شهورنا.
خبِّرهم يا طوفان كم صادروا من بيوت وأراضي وأملاك، كم شرّدوا وقهروا وعذّبوا، كم امرأة ترمّلت، وأطفال تيتموا، وعفيفات انتهكت أعراضهن، وأسرى لا زالوا تحت ويلات القهر والعذاب.
ألا يكفي كل هذا لأن يُردّ ظلمهم ولو كان ثمن ذلك الأرواح؟ أم أن الوهن ساد فينا، فَشَلَّ منا الأركان.
ثم ها هم اليوم وقد عاثوا فساداً وإفساداً، ولم يسلم منهم بشر، ولا حجر، ولا شجر؛ بيوت هُدِّمت، وأطفال قتِّلت، وعائلات وُئِدت، ونساء اغْتُصِبت، وأشلاء تطايرت. حصار وتجويع، حرق وتخويف، قصف وتقتيل. فأي مسلم هذا الذي لا يغار على عرضه ودينه ومقدساته؟ وأي خذلان هذا الذي تفوح من نتانته الأرجاء؟ ثم نزعم أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واعجبا لقوم جادلوا فأكثروا الجدال، ثم طعنوا في الرجال، وحمّلوهم وزر الحرب بسوء المقال، وحجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه لم يردّوا ظلم قريش عنهم قبل الهجرة؛ إذ كانوا مستضعفين، والقوى غير متكافئة.
نعم لم تكن القوى متكافئة؛ فالقلة المؤمنة معدودة على الأصابع، وعليها يتوقف مصير الإسلام؛ فإن هلكت فلا توحيد لله بعدها. ثم هي قلة من ضعفاء القوم وفقرائهم؛ فلا عدة ولا عتاد يواجهون به العدو.
أما نحن اليوم فكثير ولكن غثاء كغثاء السيل. نحن كثير في العدد، وكثير في السلاح والعتاد. ولو اجتمعت جيوش الأمة لغزت العالم كله، ولكن مصيبتنا في هواننا، وحبنا للدّنيا، وكراهيتنا للموت، وتركنا للجهاد.
فذكرهم يا طوفان أنك حجة عليهم، ومن لم ينصر العصبة المؤمنة؛ فليخف على نفسه أن يكتب في سجل المستبدلين.
جئناك يا أرض الملاحم بالفـــــــــــــــــدا
سيلا عرمرم نحن جند محمــــــــــــــــــــــــــدا
نحن السيول الزاحفون بالـــــــــــــــــردى
بالمال جدنا بالنفوس زُهّــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا
أنا في سبيل الله أرخصت دمــــــــــــــــــــــي
روحي في كفي مثل نفح البلســــــــــــــــــــم
أسقي عدوي مُرّ كأس العلقــــــــــــــــــــــــــــم
أحمي حياض الأرض دوما أبـــــــــــــــــــدا
إنا حكايا الموت نحن المرعبــــــــــون
وصدى بواسل جندنا يعني المنون
ما خبَّأ الجند لهم لو يعلمــــــــــــــــــــــــــون
كمدا سيمضون الليالي سُهّـــــــــــــــــــــــدا
يا شعب امضي لا تهب في الله مـــــــا
يَتَقوَّلُ الإرجاف قولا آثمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
سنبيدهم ونعيد ما تهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّمَ
النصر حتما ناله من وحَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَ