ها هي غزة تحت النار؛ تصلى لهيب الغدر والخذلان، قبل لهيب القذائف والصواريخ وقوى الطغيان. ويأتي الجيش المخذول بجبروته يحشد عدته وعتاده، وخلفه قوى الشر في هذا العالم البائس، وقد تجسدت فيه نوازع الكبر والاستعلاء، كما تجسدت في فرعون من قبله؛ إذ قال الله تعالى واصفا ذلك المشهد: {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائضون، وإنا لجميع حاذرون}.
ولم يعلم الجيش المخبول أن لكل فرعون موسى، وموسى على الأبواب؛ ولكنها مسألة وقت، وإن غداً لناظره قريب.
وفي مشهد مرعب يختزل صورة العالم المنافق الذي تحكمه ازدواجية المعايير؛ تتساقط أطنان من المتفجرات على غزة، دون أدنى رحمة يمكن أن تكون في إنسان. ويُقصف كل شيء بلا هوادة. كل شيء مخيف ومرعب للمحتل في غزة، وليست المقاومة وحدها. الطفل مرعب، والمرأة مرعبة، والرجل مرعب، والشيخ مرعب، الصغار والكبار، والحيوانات، والشجر والحجر. كل شيء مرعب هنا؛ حتى الأموات في قبورهم؛ فلا بد أن يُخْرَجُوا ويُدْعَسُوا، ويُهَشَّم ويُعْجَن ما تبقَّى من أجسادهم؛ فلعلّ روحاً تدخلها فتبعثها من جديد، تكون وبالاً عليهم من حيث لا يشعرون.
وفي كل مرة يطفو ذاك النّتن على السطح ليتقيأ قذارته على الإعلام؛ بأنه سيطحن غزة حتى يصل إلى الأهداف، ولا زال يهذي بهذا الكلام كالمجنون ولم يتحقق له شيء؛ ذلك أن الله مولى غزة، ولا مولى له وللعالم الكافر الذي يسنده.
فاحشد يا أيها النتن ما شئت، فإن لم يكفك الإنس فأتِ بالجن، فوالذي نفسي بيده لو اجتمعت الإنس والجن ليضرّوا غزة بشيء، ما ضرّوها إلا بشيء قد كتبه الله عليها، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
ومع كل هذا الطغيان والأذى الذي يغرس أنيابه في أهل غزة؛ فإن ذلك لم ينل من صبرهم، وتجلّدهم؛ بل زادهم إيمانا ويقينا بموعود الله تعالى. فماذا يفعل المعتدي بهم؟ إن جنة الصبر في قلوبهم، وبستان اليقين في صدورهم، وأينما راحوا وحيثما حلّوا فإيمانهم معهم لا يفارقهم، وقتلهم شهادة، ويا لها من شهادة.
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وها هي صور مشرقة للنفوس المؤمنة التي سارت على خطى أسلافها، لم تتخلف قدر أنملة؛ لا زالت تقتفي الأثر، وتتبع السبيل، وترجو اللحاق بركب السابقين، ولسان حالها “غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه”
فخبرهم يا طوفان عن أم فقدت كل أبنائها وقلبها راضٍ مطمئن، ولسانها يلهج مؤمناً: (رضينا يا رب، كلنا فدا الأقصى). خبرهم يا طوفان عن أب فقد أبناءه، فلم يمنعه ذاك من واجب النصرة والتثبيت لأخيه المكلوم، صارخاً في وجهه: (ما تعيطش يا زلمة، إنت زلمة، ونحن جميعاً مشاريع شهداء في أرض الرباط).
خبرهم يا طوفان عن روح الروح، وعن الجد الذي فقد حفيدته بقلب ثابت ووجه باسم؛ خلفه إيمان ويقين لا يفقه كنهه وحقيقته إلا مسلم أبيّ، تغذت روحه بأنوار ربانية نبتت على أعتاب العبودية وبين تفاصيلها، فألقت سرها فيها فكان من كان.
خبرهم يا طوفان عن قلوب توجعت وذاقت مرارة الفقد، وتجرعته عذاباً يقطع أوصالها؛ ولكنها صبرت صبراً جميلاً، ولم تسخط ولم تجزع، وكأن نداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترق تضاريس الزمن؛ ليقع في مسامعها كما وقع في مسمع جابر حين قال له: “يا جابر ما لي أراك منكسراً؟” فقال جابر: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفلا أبشرك بما لقي الله أباك؟” قال: بلى يا رسول الله. قال: “ما كلّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً. فقال: يا عبدي تمنّ علي أعطك. قال: يا ربي تحييني أقتل فيك ثانية. قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون”.
فيا لها من كرامة لمن صبر صبراً جميلاً من أهل غزة، ويا له من اصطفاء واستعمال في ثغر لم تُؤْتَ الأمة من قبله.
فاللهم ارحم غزة وأبناء غزة وأبناء أبناء غزة.
وذكرهم يا طوفان، وعلمونا يا أهل غزة.
يا تلاميذ غزة علمونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
بعض ما عندكم فنحن نسينـــــــــا
علمونا بأن نكون رجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالا
فلدينا الرجال صاروا عجينـــــــــــــــــــا
علمونا كيف الحجارة تغــــــــــــــــــــــــدو
بين أيدي الأطفال ماسا ثمينـــــــــا
كيف تغدو دراجة الطفل لغمـــــــــا
وشريط الحرير يغدو كمينــــــــــــــــــــــــــــــا
كيف مصاصة الحليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
إذا ما اعتقلوها تحولت سكينــا
يا تلاميذ غـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزة
أمطرونا بطولة وشموخـــــــــــــــــــــــــــــــا
إن هذا العصر اليهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودي
وَهمٌ سوف ينهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار
لو ملكنا اليقينـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا