منذ أن بدأ الطوفان والابتلاءات تتوالى على القلوب المؤمنة، تطحنها طحناً، وتعجنها عجناً، وتقطع أوصالها ألماً. لقد تشربت العذاب، وتجرعت كل ما فيه من مرارة وقسوة؛ لكنها بقيت ثابتة موقنة بموعود الله، ولسان حالها “إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا”.
مجزرة مستشفى الشفاء لا زالت حاضرة في الأذهان؛ إذ نقشت معالمها في الذاكرة بمداد من دم؛ فلا شيء يزيلها إلا أن تخرج الروح من الجسد. دماء الشهداء في كل مكان، والأشلاء المسلمة ملأت الأرجاء؛ تنهشها الكلاب، وتدعسها الدبابات.
نساء رُملت، وأطفال يُتمت، ورجال هُدرت كرامتهم حين جُرِّدوا من ثيابهم وكُشفت عوراتهم، في مشهد يرعب الحجر قبل البشر، بل يرعب البشر قبل الحجر،
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ}.
وتتوالى المجازر على الفئة المؤمنة الصابرة المحتسبة؛ فذا قتل، وذا حرق؛ بل قصف، وحصار، وتجويع، وانتهاك للأعراض. كل أنواع الجريمة حاضرة هنا، وبطلها أنذل وأرذل جيش عرفه التاريخ، ولا ضير في ذلك؛ فالعرق دسّاس، وما أشبه الخلف بالسلف. فالذين لم يراعوا حرمة أنبياء الله؛ كيف يراعوا حرمة من هم دونهم، وهم الملعونين على لسان أنبيائهم، المشردين في الأرض بقدر من الله وعدله؟
عندما أتأمل كل هذا العذاب، وأرى حجم الابتلاء؛ أدرك كم أن سلعة الله غالية، ولم يتعدّ إدراكي قبلها حدود الحروف والكلمات، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”.
كنت أحدث نفسي من قبل كلما مررت بهذا الحديث، كما يحدث أحدهم نفسه عن شيء بديهي مفهوم، فأمرّ عليها مرور السُّذَّج؛ مَن قَصُرَ علمهم وفهمهم، وتَخَلَّفوا عن مقام اليقين. ولا يسعني بعد الطوفان إلا أن أقف وقفة خوف ووجل أمام هذه الحقيقة المرعبة.
لقد دفع أهل غزة ثمنا باهظا من دمائهم وأرواحهم وأشلائهم، ثم دفعوه مرة أخرى بصبرهم ويقينهم ورضاهم على أقدار الله. فماذا دفعنا نحن؟
لا زال خيالي عاجزاً عن تصور مشهد واحد من مشاهد غزة الأبية فيما لو كنت أنا فيه. فكيف لقلبي أن يتحمل العذاب الذي يعتصره لو تحول ابني إلى عظم من شدة الجوع والمجاعة؛ فأراه يحتضر بين ناظري، ويلفظ أنفاسه الأخيرة وقد رمقني بنظرة استجداء؟ أم كيف لروحي أن تهدأ عندما تدعس الدبابة الحقيرة على جسد زوجي، وقد خرج باحثاً عن لقمة يسد بها رمق أولاده؟ كيف لعقلي أن يثبت فلا يصيبه الجنون؛ إذا سرقت مني ابنتي فيفعل بها ما يسوؤني ويهتك عرضي وكرامتي؟
ماذا لو كنت في خيمة ليس فيها أدنى ما يستعين به إنسان للعيش؛ كيف أحمي نفسي وأسرتي من الحر والقرّ؟ كيف نأكل ونشرب؟ كيف نقضي حاجاتنا؟ كيف نغتسل؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف فيما لو أصابني ما يصيب النساء من حيض ونفاس؟ كيف أتطهر وليس لي ماء ولا حتى ما أقي به نفسي من النجس؟
من يداويني إذا أصابني ألم وأنهكني سقم، وقد عجزت المستشفيات؟ من يهدئ من روعي والكل مرعوب؟ من يواسيني والكل مكلوم ومحزون؟ أين نذهب؟ “وين نروح”؟ وكل الأماكن حمم وبركان، والصواريخ والقذائف تُلقى علينا كقطر المطر!
كيف وكيف وكيف؟!
قد أنهكتني تلك التفاصيل، وأعجزتني؛ فلك الله يا غزة. لكم الله أيها المؤمنون الصابرون؛ فقد زلزلتم كما زلزل نبيكم من قبلكم
{...وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب}.
دفعتم يا أهل غزة الثمن، وعسى الله أن يثيبكم أجراً عظيماً، وجنات ونعيماً، وقد اطلع على قلوبكم، ورأى منكم صدق التوكل عليه، والرضى بقضائه، والصبر على بلواه.
أمَّا نحن فقد أتعبتمونا من بعدكم، ولم تَبْقَ لنا حجة عند الله إلا أن نبذل بالقدر الذي بذلتموه، ونتجرَّع من التعب في سبيل الله ما تجرعتموه.
ميادين الجهاد عديدة؛ فالله الله في الثغور؛ لِتُلْزَم باستماتة، لا تؤتى الأمة من قبلها. عسى الله أن يغفر لنا التقصير، ويتجاوز عنا لشرف المحاولة.
وذكر يا طوفان، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
تحيرتُ والرحمنِ لا شك فـي أمـــــــــــــــري
وحاطت بي الأحزان من حيث لا أدري
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبـــــــــــــــري
وأصبر حتى يقضي الله فـي أمــــــــــــــــــــــــــــــري
سأصبـر مغلوبـاً بغـيـر تـوجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
كما يصبر الظمآن في أزمـن الحـــــــــــــــــــــــــــر
سأصبـر حتـى يعلـم النـاس أننـــــــــــــــــــــــــــــــــي
صبرت على شئ أمـر مـن الصبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
ولا شـئ مثـل الصبـر مـر وإنمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
أمرُّ من الأمرين إن خاننـي صبـــــــــــــــــــــــــري
سرائـر سـري ترجمـان سريرتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
إذا كان سر السر سـرك فـي ســـــــــــــــــــــــــــــري
ولـو أن مـا بـي بالجبـال لهدمـــــــــــــــــــــــــــــــــــت
وبالنار أطفأهـا وبالريـح لـم تســــــــــــــــــــــــــــــرِ