من الأسبابِ الرَّئيسيّةِ التي تُلجم الكثيرَ منَ النَّاس عن قَبولِ الحقِّ؛ بل ومجرَّد الإنصاتِ لما فيهِ من الأدلَّةِ والبراهين؛ هو قلَّة السّالِكينَ لهذا الطَّريق. فترى أنّ حجَّتهم الأساسيَّة في المناظرات تدورُ حولَ محور واحد يتلخّص في هذه الجملة: (يعني كلّنا على خطأٍ وأنت الصحّ؟).
قد بيّنَ اللهُ تعالى في كتابه أنّ كثيرًا من الكُفّـار والمنافقينَ قد يتصدّقونَ ويعملونَ أعمالًا صالحةً؛ ولكن لا تُقبل منهم، مثالُ ذلك: لو صلّى أحدُهُم صلاةً وأطالَ فيها مُحَقِّقًا الخُشُوع والطّمأنينة؛ ولكنّهُ لم يكن على وضوء؛ فإنّ صلاتَهُ باطِلَة لفقدها شرط من شروط صحّةِ الصّلاة. كذلكَ الذي يَعمَل أَعمالًا صالحةً؛ لكنّه لم يحقِّق أصلًا من أصولِ دينه، أو أشرَكَ مع الله أحدًا، أو جاءَ بناقضٍ من نواقض “لا إله إلا الله”؛ فإنّ الله يُحبِطُ عَمَلهُ.
ولمّا ذكر الله تعالى ثمانيةَ عشرَ نبيًّا في سورةِ الأنعام مُثنيًا عليهِم قال بعد ذلك:
﴿وَلَو أَشرَكوا لَحَبِطَ عَنهُم ما كانوا يَعمَلونَ﴾.
وقال تعالى وهوَ يكلُّم النَّبيَّ صلّى الله عليهِ وسلم، خيرَ خلقِهِ:
﴿وَلَقَد أوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ﴾ [الزمر: ٦٥].
ومنذُ متَى وطريقُ الحقِّ يُعرف بكثرةِ اتِّباعِ النَّاسِ له؟هل يُعقَل أن تكونَ المسَطرَة التي يُحدِّد بِها المرءَ الحقَّ من الباطِل قابِلة للتَّغييرِ والتَّبديل بحَسبِ أَهواءِ النَّاس وما يتماشَى مع العصرِ الحاليّ، كما يستشهِد هؤلاء على صحَّة الأقوالِ بأعدادِ التَابِعينَ لها؟
لكن من يقرَأ كتابَ الله يجِد أنّ الصَّواب هو عَكس ما يجادِل به هؤلاء تمامًا، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه:
﴿وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 116]، ﴿ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف: 103]، ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء : 89].
وتكرَّرت في القرآن الكريم كثيراً من الفَواصلِ القُرآنيَّة التي تذُمّ الكَثرة، وتُخبر عن حالِها وضلالِها، كقوله تعالى:
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود : 17]، وقوله: ﴿ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187]، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة : 243]، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام : 111].
كما وَرَوى البُخاريُّ ومسلِم عنِ ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبَّي صلى الله عليه وسلم قال: “عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ”.
فيا ترى، هل هؤلاء الأنبياء عليهمُ السَّلام لَيسوا على حقٍّ لأنَّ أتباعَهُم قِلَّة، وقِلَّةٍ قَليلَة، ويوجد من لا تابعَ لَه؟ بلِ الحقُّ والصَّواب يُعرَف؛ بمُوافقَة كتابِ الله وسُنَّةِ رسولهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم، وما أجمَعَ عليهِ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ، لا بكَثرةِ العَدَد.
قال الفُضيل بن عِياض رحمه الله: (الزمْ طريقَ الهدَى، ولا يضرُّكَ قِلَّةُ السّالكين، وإيَّاك وطُرقَ الضَّلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين).
واعلموا أنَّ الحقَّ لا يُعرف بالرِّجال؛ بلِ الرَّجالُ يُعرَفون بالحقِّ.