لا يزال نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم من أعظم أسباب قطع الروابط وايقاد نيران الحقد والعداوة بين الناس، وقد ذم الله تعالى صاحب هذا الفعل فقال -عز وجل-
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ. هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ}
وتعني النميمة: نقل الكلام بين الناس لقصد الإفساد وإيقاع العداوة والبغضاء والفتنة والوحشة، كمن ينقل كلاما بين صديقين، أو زوجين للإفساد بينهما، سواء كان ما نقله حقا وصدقا، أم باطلا وكذبا، وسواء قصد الإفساد أم لا، فالعبرة بما يؤول إليه الأمر، فإن أدى نقل كلامه إلى فساد ذات البين فهي النميمة، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
والباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه، أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث والخوض في النقول والباطل.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: “هِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ”.
ومن النتائج السيئة المترتبة على هذا الأمر إفساد العلاقة بين الناس، ونشر للفتن وقطع الصلات، وزرع الحقد وتفريق الجماعات، وإلحاق الضرر وكل هذا منهي عنه.
فقد روى أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة”.
وعن حذيفة مرفوعا: (لا يدخل الجنة قتات). رواه البخاري انظر الفتح ٤٧٢/١٠
وعن ابن عباس قال: (مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَبْرَيْنِ، فَقالَ: إنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أمَّا أحَدُهُما فَكانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ في كُلِّ قَبْرٍ واحِدَةً، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هذا؟ قالَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عنْهما ما لَمْ يَيْبَسَا). صحيح البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا : بلى، قال : المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت). (رواه أحمد)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس). (رواه مسلم)
وأما الإجماع فقد قال ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: قال الحافظ المنذري أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل.
فلا شك أن النميمة من كبائر الذنوب، وفاعلها من شرار الناس. ونهى الله نبيه أن يطيع هؤلاء الهمازين المشائين بالنميمة لأنهم مفسدون، فالواجب الحذر منهم والإنكار عليهم إذا نقلوا، فإذا نُقِل إليك قل: (لا تنقل إليّ كما قال ﷺ: إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).
ولو صح ما نقله النمام إليك، لكان هو المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك؛ لأنه لم يقابلك بشتمك.
قال الحسن : من نم إليك نم عليك.
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسوارى ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال عمرو: يا هذا ما راعيت حق مجالسة الرجل؛ حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعلمه: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين .
وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالسـا وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت، فقال سليمان : إن الذي أخبرني صادق ، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقـا، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام .
ويروى أن عمر بن عبد العزيز دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر فيما نسبته إليه، فإن كنت كاذبـا فأنت من أهل هذه الآية: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينواٍ}، وإن كنت صادقـا فأنت من أهل هذه الآية: {هماز مشاء بنميمٍ}، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدا.
وأعلم أن أقوالك مضبوطة ومحفوظة ومكتوبة عليك، فاحذر أن تتكلم بشيء يضرك ويكتب في سيئات أعمالك، فقد قال تعالى:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌٍ}.
وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَامًا كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونٍَ}.
فهم كرام يكتبون قولك وعملك فاحفظ هذا اللسان حتى لا تقول إلا خيرا، فيقول ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
وهذا لا يتعارض مع ما عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا، إذا تاب منها العبد وأناب.
فالنميمة مع عظم جُرمها، إلا أن العبد إذا تاب منها، تاب الله عليه.
فقال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.