ظللت أسأل نفسي: لماذا عندما يوشك أن يتخطف الموت أحبابنا خلال اللحظات الأخيرة تأتي أطياف الذكريات، وتتأجج المشاعر؟ هل ما كنا نسمعه بأنَّا لن نشعر بقيمة الإنسان حتى نفقده؛ صحيحة يا ترى؟
فظهر لي أنَّ لهذه العبارة معان كثيرة، والناس أصناف فيها.
بعضهم يخفي حبه ويتناسى شوقه، وما أن يشارف الموت على خطف محبوبه؛ حتى يبدأ نبض قلبه بالتسارع، ويصيبه الخوف والهلع عليه؛ فترفع المشاعر راية الاستسلام وكأنها تقول: (لن أصبر أكثر بعد)؛ فتفضحه تصرفاته وتفشي بسره كلماته.
وصنف آخر قد اعترف قلبه وعقله بميله للطرف الآخر؛ لكنه أبى إلا أن يكذبها، وظن أنه قادر على التحكم بميل هذا القلب ونسي “إنَّ القُلوبَ بينَ إصبُعَيْنِ مِن أصابعِ اللَّهِ يقلِّبُها كيفَ شاءَ”، وما أن يلوح له الوداع والفراق؛ تنهار كل ظنونه؛ وكأنها جدار هرم انهار عند أول ضر أصابه.
الصنف الثالث هو ذاك الذي يستعاذ من لقياه، ذاك المخادع الذي يتخفى وراء الأقنعة، يظهر الود والحب والصدق؛ حتى تظن أنه هو الذي سيمحو دمع الأسى، ويضمد جراح الخذلان، وإذا بك تكتشف عند أول مصيبة هشاشة حبه، وإذا به يختفي ويتلاشى كأنَّ شيئاً لم يكن. والذي ظننت أنه سيمسح دمع الأسى؛ أنزله، وأنه سيضمض الجراح؛ فأدماه.
وهكذا، الناس أصناف في معنى هذه العبارة؛ ولكنهم متفقون في معرفة قيمة الشخص. فمعرفة قيمة الشخص لا تنحصر في من فقد؛ إنما فيمن يُفقد؛ فعند نزول المصيبة أو الوداع، أو في أوشاك فيض الروح إلى بارئها في اللحظات الأخيرة؛ تظهر حقائق الناس، وبهذه اللحظات يعرف قيمة من حوله، يعرف عدوه من صديقه، من أحبه صدقاً فكان معه في السراء والضراء، ومن أحبه زيفاً فوجده في السراء واختفى في الضراء.
وإنَّ دروس الحياة ثمينة، وبعض المواقف تأتي لتظهر المعادن فقط. وهكذا هي طبيعة الإنسان، لا يُقدر قيمة ما يملكه إلا عند فقده، فيبدأ التمسك والتربص بها حين تبدأ بالانفلات من يديه، ما أظلمه وما أجهله!
أولا يعلم أنَّ انفلاتها منه دليل على عدم شكر النعم؟ فالسكن، والزواج، والصحبة الصالحة، والعائلة، من النعم، ومن لم يعرف قيمة ما يملكه وزهد به وكفر النعمة؛ فإنها ما تلبث حتى تتلاشى، ولو أنه شكر لظفر ودامت.