شدّة غُربة المتمسِّك بالدين، وجزاؤه عند أكرم الأكرمين

|

غُربة المتمسِّك بالدين

قال رسول اللّٰه ﷺ: «يأتي علىٰ الناس زمانٌ؛ القابضُ علىٰ دينه كالقابض علىٰ الجمر». قال الإمام السِّعدي رحمه اللّٰه تعالىٰ: “وهذا الحديث -أيضًا- يقتضي خبرًا وإرشادًا؛ أما الخبر: فإنه ﷺ أخبر أنه في آخر الزمان يقلُّ الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل.

وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة؛ كحالة القابض علىٰ الجمر من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلّة؛ فتن الشُّبُهات، والشكوك، والإلحاد، وفتن الشهوات، وانصراف الخلق إلىٰ الدنيا، وانهماكهم فيها (ظاهرًا وباطنًا)، وضعف الإيمان، وشدة التفرد لقلة المُعين والمُساعد.

ولكن المتمسك بدينه؛ القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق؛ التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين- مِنْ أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرًا.

وأما الإرشاد؛ فإنه إرشاد لأمّته؛ أن يُوطِّنوا أنفسهم علىٰ هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر علىٰ دينه وإيمانه -مع هذه المعارضات- فإنّ له عند الله أعلىٰ الدرجات، وسيُعينه مولاه علىٰ ما يحبه ويرضاه؛ فإنّ المعونة علىٰ قدر المؤونة.

وما أشبه زماننا بهذا الوصف الذي ذكره ﷺ؛ فإنه ما بقي من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه؛ إيمانٌ ضعيف، وقلوبٌ متفرِّقة، وحكوماتٌ متشتتة، وعداواتٌ وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداءٌ ظاهرون وباطنون، يعملون سرًا وعلنًا للقضاء علىٰ الدين؛ وإلحـ،ـادٌ وماديات، جرفت بخبيث تيارها وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلىٰ فساد الأخلاق، والقضاء علىٰ بقية الرمق،

ثم إقبال الناس علىٰ زخارف الدنيا؛ بحيث أصبحت هي مَبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون؛ ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية علىٰ تعمير الدنيا، وتدمير الدين، واحتقاره، والاستهزاء بأهله وبكل ما ينسب إليه، وفخر، وفخفخة، واستكبار؛ بالمدنيات المبنية علىٰ الإلحـ،ـاد؛ التي آثارها، وشررها، وشرورها قد شاهده العباد.

فَمَعَ هذه الشرور المتراكمة، والأمواج المتلاطمة، والمزعجات الملمة، والفتن الحاضرة والمستقبلة المدلهمة -مع هذه الأمور وغيرها- تجد مصداق هذا الحديث.

ولكن مع ذلك، فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من رَوح الله، ولا يكون نظره مقصورًا علىٰ الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتًا في قلبه كل وقت إلىٰ مُسبِّب الأسباب؛ الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه؛ بأنه سيجعل بعد عسرٍ يسرًا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات، وحلول المفظعات.

فالمؤمن من يقول في هذه الأحوال؛ “لا حول ولا قوة إلا بالله” و”حسبنا الله ونعم الوكيل”، “علىٰ الله توكلنا”، “اللهم لك الحمد، وإليك المُشتكى، وأنت المستعان، وبك المُستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”؛ ويقوم بما قدر عليه؛ من الإيمان، والنصح، والدعوة، ويقنع باليسير (إذا لَم يكن الكثير)، وبزوال بعض الشر وتخفيفه (إذا تعذر غير ذلك).

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾.
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.

– [بهجة قلوب الأبرار: ٢٣٩ – ٢٤٠]

فلا يهولنَّك أيها الداعي إلى الحق ما تراه وتجده من الأعداء والمخالفين، وكُن على يقين من ربك ومن نصر الله عَزَّ وَجَلَّ لجُنده، ابذل العلم النافع محتسبا الأجر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تلتفت إلى كثرة المخالفين.

وإذا تيقن المؤمن الموحد الداعي إلى التوحيد وإلى كل حق من هذه القضية اليقينية؛

فإن هذا يثمر له:

الأمر الأول:

أن يثبت على دعوته ولا ينقص عنها لكثرة المخالفين، وأن يصبر ويُصابر ويرابط.

الأمر الثاني:

أن يُوَطِن نفسه على ما سيلقاه من خِلافٍ وأذى، أن يُوطِن نفسه على أنه سيجد مخالفين وسيؤذونه ولا يتقون الله فيه فيهيئ نفسه لذلك.

الأمر الثالث:

أن يتسلح بسلاح العلم الصحيح المبني على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح الذي يقرر به الحق ويدفع به الشبهات.

الأمر الرابع:

أن يتيقن أن الحق مهما كان وضوحه لا يلزم الاتفاق عليه، فالعبرة بالحق لا باتفاق الناس عليه، ولا بمواقف الناس منه، وسنة الله الجارية: أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، فأكثر الناس يكونون في ضلال، وفي مخالفة للحق.

الأمر الخامس:

أن يتيقن أن صاحب الحق إنَّما يتسلح بالحق، ولا يلزم أن يكون معه ما يؤيده مما يراه أهل الدنيا قوة كما يظن المبطلون.

– ( كشف الشبهات )

والشُّعور بالهمِّ الجاثم علىٰ القلوب جرَّاء الغُربة وانحسار الحقِّ وأهله؛ هو من علاماتِ التَّعافي بإذن اللّٰه والنُّهوض بالأُمَّة شيئًا فشيئًا!
ولذا فلنُثابر للبقاء علىٰ هذه الجَذوة متوقدةٌ في القلوب إلىٰ حين سبق أحد الأجلَين؛ أجل العبد أو أجل الباطلِ وأهله.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة