وإني كلما تأملت في هذه الحياة الدنيا وسلوك البشر فيها؛ أتعجب من حجم الغفلة التي خيّمت على القلوب، وخمّرت العقول، فلم تعد ترى إلا ما قد سعت فيه من شؤون هذه الحياة الفانية. ونسِيَت أنها في رحلة نهايتها وقوف بين يدي الله ملك الملوك، وملفاتٌ وحسابات، وما فُعَل بالعمر، والشباب، والمال، والعلم!
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع؛ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه".
فلا تكاد تجد في فعل القوم ما يذكرك بالله ويحثك سعيا إليه. فهذا طالب العلم قد حصر نجاحه في أن يكون دكتوراً حذقاً، أو مهندساً نبيهاً، أو أستاذاً ومحاضراً مفوهاً، يكسب مالاً يؤمِّن به مستقبلاً، ويعيش به عيشاً رغيداً. وذاك التاجر يخطط ويتحين الفرص والمناسبات؛ لتزدهر فيها تجارته، وينتعش بيعه ويزداد رصيده من الأموال. وأولئك قد أهمّتهم معيشتهم، وشغلتهم أرزاقهم وكيفية تحصيلها، فلم تترك لهم فرصة التفكير في غير ذلك. وذاك وذاك وذاك…
والنّاس في غفلة عن حقيقة وجودهم، وإن علموا ذلك. فإن سُئِل أحدهم لما نحن هنا؟ سيقول حتماً: (لعبادة الله). فهل نعيش بهذه الحقيقة ولها؟ وهل مكّنّاها منا حضوراً في تفاصيل معيشتنا؟ أم أنها مجرد معرفة سطحية جعلناها على هامش الحياة، ولا يزال وجودها مبهماً وضبابياً في حياتنا؟
وأيًّا كان تصرّف الناس حيال هذه الحقيقة؛ فستبقى قائمة بذاتها شاهدة على فعالهم، والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. أما المُجِدّون المجتهدون في طريق الله، فهم العارفون بربهم، الذين امتلأت قلوبهم حباً وشوقاً إليه. فالحب وقودهم، والعلم بالله دليلهم، ويتفاوتون في الدرجات بقدر حبهم وشوقهم لخالقهم. يقول شيخ الإسلام:
(أصل التفاضل بين الناس وتفاضلهم عند الله، إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فإذا كان الناس يتفاضلون فيما يعرفون من المعروفات، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته أعظم).
فيالسعادة العارفين بالله؛ لا تلههم عنه أموالهم وإن ملكوا الدنيا وما فيها، ولا يشغلهم عنه فقرهم وإن كانوا أعوز الناس وأحوجهم، ولا تقعدهم عنه أسقامهم وإن كانوا بأجساد متعبة متهالكة، ولا تغرهم صحتهم وإن كانوا أشد الناس وأقواهم. فهم المشتاقون الذين عرفوا أنهم إلى فناء، وأنهم لا زالوا في رحلة منذ أن وُلدوا، ولا بد من يوم تُحَطُّ فيه الرحال؛ إما في جنة وإما في نار.
يقول بعض العارفين:
(إذا كملت معرفتك بالله، أورثت لك خوفاً واحتراقاً للقلب، ولا وصول إلى سعادة لقاء الله في يوم القيامة إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، والأنس به في الدنيا، ولا تحصل تلك المحبة لله إلا بمعرفة الله).
ولعل من هداهم الله بعد غفلة عنه؛ يتساءلون أن كيف السبيل إلى الله، فنخطوا بخطوات ثابتة لا يشوبها تردد ولا ارتجاف، فنسابق في طريق الله ونلحق بركب العابدين وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟
وجواب تساؤلاتهم أن كيف للمحبة والشوق أن يتحرك في القلوب، إذا لم تشاهد جمال وجلال صفات المحبوب؟ فمعرفة الله هي أول خطوة نحو الحب والشوق والعبودية. يقول أحد العارفين:
(المؤمن إذا عرف الله أحبه، وإذا أحبه أقبل على عبادته).
فيا أيها المشتاقون إلى نعيم العبودية أقبلوا؛ فهاهي الأبواب قد فُتِّحت، ولا زالت آياته تناديكم:
{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
وإن للمعرفة بابان، فمن ولجهما فقد عرف، ومن عرف فقد أحب، ومن أحب ألزمه حبه وأذاقه حقيقة العبودية.
أما الباب الأول؛ فهو النظر في مفعولاته، ومشاهدة آياته في مخلوقاته؛ وأما الباب الثاني؛ فهو تدبر كلامه عز وجل، والتفكر في آي القرآن الكريم تفكراً مورثاً للخشية والعمل.
يقول صاحب الفوائد:
(الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين؛ أحدهما النظر في مفعولاته، والثاني التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة وهذه آياته المسموعة المعقولة)
فأطلق بصرك أيها المشتاق، وتأمل آيات ربك المشهودة. فتلك سماء رفعت، وتلك أرض بسطت، وتلك جبال نصبت، وما بينها عجب عجاب لو ترى عيناك. بل تدبر في مأكلك ومشربك، كيف اجتمعت القطرات والحبات من بلاد شتى، لتكون بين يديك رزقاً كتبه الله لك منذ أن كنت في بطن أمك؟ بل تدبر في نفسك كيف شق بصرك وسمعك، ووهبك من النعم ما تستقيم به حياتك؟ وانظر إلى لطف الله بك؛ إذ يحميك من الأمراض والأسقام المتربصة بك. وها هو مرض السرطان الخبيث الذي يقضّ مضاجع المرضى، ويذهب راحتهم، يترصد لنا في اليوم مرات عديدة، في دورة خلوية جعلها الله في أجسادنا؛ ولكن من رحمة الله ولطفه أن جعل فيها نقاط تفتيش وحراس يُقصُون كل خلية بها خلل، حتى لا تتحول الى خلية سرطانية.
وما أكثر الأدلة في أنفسنا وفيما قد أحاط بنا والتي تظهر عظمة الخالق ورحمته ولطفه وقدرته وصفاته!
فيا عجبا كيف يعصى الإله!
أم كيف يجحده الجاحــــــــــــد؟
وفي كل شيء له آيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
تدل على أنه واحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
ولله في كل تحريكــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
وتسكينة أبدا شاهــــــــــــــــــــــــــــــد
ثم أطلق فكرك أيها المشتاق في آيات الله المسموعة، واملأ قلبك بكلام حبيبك ومكنه منه، ولا تسألني بعدها عن نعيم القرب؛ فإنها والله لحظات لا تستبدل بكنوز الدنيا وملكها. قال أحد العارفين:
(من عرف الله خرج من هذه الدنيا ولم يشبع من اثنين. قيل ما هما؟ قال: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه)
فأقبل أيها المشتاق أقبل، والحق بركب المحبين لا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا. وارتو من نهر المحبة، اِسق روحك منه، فتنير دربك، تُحْيِيك حياة طيبة في جنة عُجِّلت لك في دنياك قبل آخرتك.
ويا عجبا للمحبين! إذا أحسّوا بحجاب وجفوة بينهم وبين خالقهم؛ بكوا من البعاد، وإن فتح لهم باب إلى القرب وذاقوا من نعيمه ولذاته؛ بكوا خشية الطرد وزوال النعمة. فهم من بكاء إلى بكاء، وهذا هو حال المحب.
يبكي إن نأى شوقا إليـــــــــــــــه
ويبكي إن دنا خوف الفراق