عندما أقلب مواقع التواصل الاجتماعي؛ كثيراً ما أصادف تلك المنشورات التي يشارك أصحابها كل لحظة، وكل حركة وسكنة لعباداتهم بالبقاع المقدسة. ولعل أحدهم استغرق أعواماً حتى جمع ما يؤدي به منسكه، فلما فتح الله عليه بهذه العبادة؛ صار يشارك تفاصيلها مع العالم كله فخراً وطلباً للثناء والشهرة.
وإن أعجب ما رأيت، تلك الحفلات التي تقام لمن أدى المنسك ثم تشارك مع القاصي والداني؛ فالكل عليه أن يعرف أن فلاناً ابن فلان قد أدى منسكه، والكل عليه واجب الثناء ورفعه بين علية القوم. ومثلهم المتصدقون بأموالهم، الذين لا يرضيهم ولا يشبع رغبات نفوسهم إلا أن يقفوا بين أضواء الكاميرات، أو أن تشيع أسماؤهم بأنهم أصحاب الفضل في أعمال الخير والتطوع.
وما أعجب هذا الحال عندما نقارنه بما كان عليه سلفنا الصالح من إخلاص وصدق مع الله تعالى، وما ينجر عن ذلك من إخفاء العبادة خوف الوقوع في الفتن، وهم من هم في الاجتهاد والعلم والأدب مع الله. قال ابن القيم رحمه الله:
(لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت).
أما المخلصون لله حقاً فلا ينطلي عليهم كيد الشيطان وسطوة النفس؛ فقد علموا أن الضعف شيمة البشر وطبيعة فيهم، وإن كان في ظاهرهم من قوة العلم أو المال أو الجسد أو الجاه أو غير ذلك من متاع الدنيا. ولما تيقنوا من ذلك زهدوا فيما عند الخلق واكتفوا بربهم الذي بيده النفع والضر، والرفع والوضع، والعطاء والمنع؛ فرفعهم الله درجات بإخلاصهم، ولم يُمكّن غيرهم مما طلبوه من رفعة عند البشر؛ بل زهدوا فيهم وأبغضوهم، وهل القلوب إلا بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء!
قال صاحب الفوائد:
(إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده؛ تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه؛ حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم).
فيا أيها المشتاق إلى ربك، ألزم نفسك الإخلاص، وتفقد أحوال قلبك في كل حين؛ لا يخدعنك الشيطان فيزيّن لك ما عند الناس؛ فإنهم الجاهلون وإن علموا، والفقراء وإن ملكوا، والأذلّاء بين يدي الله وإن اتصلوا بكل عزيز. فلا علم ولا ملك ولا جاه ولا قوة ولا عزة إلا لله الواحد القهار.
أيها السائر إلى مولاك، اِعرف نفسك، والزم حدك، وتأدب في حضرة ربك؛ لا تلتفتن إلى ما يشغلك عنه، واصدق الله يصدقك، ويكفك من عملك القليل. قال عليه الصلاة والسلام: “يا معاذ، أخلص دينك يكفك القليل من العمل”، وإذا غاب الإخلاص لله في عمل العبد؛ فسيجعله الله هباءً منثوراً، وإن كان كأمثال الجبال. قال الله تعالى:
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
ومن بين الأمور المحزنات المبكيات، أنك إذا نصحت من ينشر أحواله من العبادة، يأتيك بألف حجة ليثبت أنه ينشر الفضيلة، ويشيع الخير بين الناس. عجباً! وهل تُنشَر الفضيلة بكشف العبد ما بينه وبين وربه؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فهل للعبد طاقة لمجاهدة نوازع النفس من حب الثناء والظهور والرفعة بين الناس؟
إن الواحد منا ليخشى من سطوة نفسه وهو في خلوته، فكيف به وعمله على رؤوس الأشهاد؟ قيل لأحد العارفين:
(أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص)؛
فالإخلاص من أشق الأمور على النفس؛ لأنه يجبرها على عكس مرادها ورغباتها. فإن كان شاقاً في ذاته، فهو بكشف وإظهار الأعمال التي يمكن سترها أشق وأصعب على النفس. ولقد فقه السلف الصالح هذه الحقيقة، فلزموا لمّا عرفوا.
يقول الحسن البصري رحمه الله:
(إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس…. وإن كان الرجل فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس…. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به… ولقد أدركت أقواما ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا).
ولأجل هذا كان الصادقون من سلف هذه الأمة أحرص الناس على الإخلاص، ولعلمهم بما جبلت عليه النفوس من حب الثناء والرفعة بين الخلق؛ أخفوا أعمالهم لتسهل عليهم المجاهدة، وإنها لأشق من جهاد العدو، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد الأكبر.
ومن مظاهر غياب الإخلاص، الغلو في حب الصالحين والجماعات، حتى لا يُرى ما فيهم من نقص وضعف وتقصير، وقد يتعدى الأمر إلى أن يكون الولاء لهم على حساب مبدأ من مبادئ الدين، أو سنة من سننه، وإن هذا من أعظم ما يبتلى به الناس فرادى وجماعات.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “
أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك فيه، وأنا منه بريء".
فهلم أيها المشتاق وأقبل على مولاك، وطلق الدنيا وما فيها ولا ترض بالدّون، فلا زالت عبئاً عليك في رحلتك حتى تزهد فيها وتوليها ظهرك.
فإن فعلت فأبشر بكل خير؛ فإنك المحب الذي يشتاق له كل حبيب، وتأنس به كل القلوب، ومن أخلص لله أحبه، ومن أحبه الله أحبه كل شيء.
يقول ابن القيم:
(وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل، وسنته التي لا تتحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي ثوب الزور من المقت والمهانة والبغظ ما هو لائق به…).