دائماً ما يقف الإنسان مشدوهاً أمام حب الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، حب تخطى حدود الكلام والأفعال. فلا تكاد تعرف شخصاً أحبه أي أحد، كما أحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، أحبوه أكثر من ذواتهم وأهليهم والدنيا بأسرها؛ ذاك الحب الذي أصاب أئمة الكفر على مر العصور بالذهول والغيظ. تأمل هذا الموقف الصغير، الذي يحمل من المعاني العظيمة ما لا يدرك إلا بالقلوب فقط
موقف قد يبدو بسيطاً؛ لكنه عظيم جداً، عظيم المعنى والدلالة والصدق. وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً في كل مواقفهم، التي لم تقتصر على المحبة العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ بل تسبقها محبة الله عز وجل وتعظيمه وإجلاله وامتثال أوامره على أكمل ما يكون، وتعظيم شريعة رب العالمين.
ومن أكثر الآثار التي تأخذ بمجامع لبك في هذا المعنى، ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(كنت ساقي (الخمر) القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت، فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمَت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرت في سكك المدينة، قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ (خمر يصنع من ثمر النخل)، فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}(المائدة: 93)) رواه البخاري.
ومن صور استجابة الصحابة المذهلة رضوان الله عليهم ما ذكره الطبري في تفسيره عن ابن بريدة الأسلمي عن أبيه أنه قال:
(بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية (إناء خمر) لنا ونحن نشرب الخمر حلّا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه، وقد نزل تحريم الخمر: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ}(المائدة: 90)، إلى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة:91)، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: وبعض القوم شربته في يده، وقد شرب بعضاً وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا).
لقد سارع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الانتهاء عن تناول الخمر بكل حسم، وأراقوا ما لديهم منها، ولم يبيعوا ما بقي عندهم منها، وقالوا بلسان حالهم ومقالهم: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا، وصار بعضهم يقول: (ما حرَّم الله عز وجل شيئاً أشد من تحريمه للخمر)، ومع ذلك لم يترددوا ولو للحظة في الاستجابة لأمر الله عز وجل.
فيا سعد من سار على طريقهم واقتفى أثرهم غير ملتفت عنهم أبداً، فهؤلاء هم خير القرون كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم،
فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ – قالَ عِمْرانُ: لا أدْرِي: ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ – ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ” صحيح البخاري.
وهم الذين مدحهم الله عز وجل في كتابه الكريم مرات عديدة، وكفى به مدح وفضل وشرف.
قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
وقال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8، 9]، وغير ذلك من مواطن مدحهم والثناء عليهم في كتاب ربنا تبارك وتعالى.
ولم يمدحهم الله عزوجل في القرآن فقط، فقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:
(أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أدَّوْا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سنته ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا).
وكما قال الناظم:
فَكُلُّهُـمْ فِـي مُحْكَـــمِ الْقُــــــــــــــرْآنِ
أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْــــــــــــــــوَانِ
فِي الْفَتْحِ وَالْحَدِيدِ وَالْقِتَــــــــــــــــالِ
وَغَيْــرِهَا بِـأَكْمَـلِ الْخِـصَـــــــــــــــــــــالِ
كَذَاكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِـيـــــــــــــــلِ
صِفَاتُهُمْ مَعْلُومَةُ التَّـفْصِيـــــــــــــــلِ
وَذِكْرُهُمْ فِي سُنَّةِ الْمُخْتَــــــــــــــــــــــــــارِ
قَدْ سَارَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ
ولم تنقضي أبداً دهشتي وذهولي من مواقف الصحابة رضي الله عنهم، ولا يزال عجبي وإعجابي شاخصاً عند وقفاتهم وسؤالاتهم وإيمانهم وتسليمهم وحسن استجابتهم لأوامر الله عز وجل.
فحتماً ستصيبك الدهشة حين تتأمل هذا الحديث الذي أخرجه أبو داوود في سننه من حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال:
(ذكر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدَّجَّالَ فقال “إن يخرُجْ وأنا فيكم! فأنا حجيجُه دونكم، وإن يخرُجْ ولست فيكم، فامرؤٌ حجيجُ نفسِه، واللهُ خليفتي على كلِّ مسلمٍ، فمن أدركه منكم فليقرَأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ، فإنَّها جِوارُكم من فتنتِه”. قلنا: وما لُبثُه في الأرضِ؟ قال: “أربعون يومًا: يومٌ كسنةٍ ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسائرُ أيَّامِه كأيَّامِكم” فقلنا: يا رسولَ اللهِ: هذا اليومُ الَّذي كسَنةٍ أتكفينا فيه صلاةُ يومٍ وليلةٍ؟ قال: “لا، اقدُروا له قدرَه، ثمَّ ينزِلُ عيسَى بنُ مريمَ، عند المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ فيُدرِكُه عند بابِ لُدٍّ فيقتُلُه”)
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه بزيادة طويلة.
تأمل ما الذي شغل الصحابة في الأمر كله، رغم الشدة والكرب، ورغم الفتنة العظيمة، رغم أن الدجال سيخرج بعد سنوات من الفقر والجوع والهلاك؛ لكن كل ما شغل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الصلاة وكيف سيؤدونها، هذا ما شغلهم وسألوا عنه!
عجيب فعلاً، أن يجلس النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن تلك الفتنة والشدة، وكل ما يدور في أذهانهم: هل ستكفينا صلاة يوم وليلة فقط؟ وكأن لسان حالهم: أن هذه مبعث الراحة ومحل الأمان؛ فكيف نظل كل هذا الوقت بصلاة يوم وليلة فقط؟ وكأن لسان حالهم يقول: كيف نحسن التقرب إلى ربنا جل وعلا، وكيف نؤدي فروضه على أكمل وجه؟
هذه الصلاة التي نقوم لها نحن الآن بشق الأنفس كسالى مسوفين، رغم اليسر والسهولة والراحة التي غالباً ننعم بها. ولكن السير إلى الله عز وجل حقاً مسافاته لا تقطع بالأبدان؛ ولكن تقطع بالقلوب!