أتتني الصغيرة ذات التسع سنوات تمشي ببطء ويبدو على ملامحها الحزن. جلست بجواري دون أن تتكلم، وأنا أعرف صغيرتي تحب من يبتدئها الكلام ويشعرها بالاهتمام. نظرت إليها، وضممتها إلي، فهي لا تحب أن أنظر لوجهها إذا كانت مترددة بشأن ما ستقوله، وقد شعرت منها ذلك من حركة يديها ونظرات عينيها. أخفيت وجهها في حضني، وقلت لها: ماذا هناك يا حبيبتي؟
تنهدت ولم ترد، وهذا ما أكد لي ترددها بشأن الكلام.
أعدت السؤال عليها وأنا أشدد في ضمي لها، لأوصل لها رسالة: لا تقلقي، تكلمي وحسب.
التقطت رسالتي من الضمة.
وبدأت بالكلام بصوت خفيض: لا أحب شعري، لا أريده.قلت لها: هذا عطاء من الله عز وجل لك، ومن لا يحب عطاء الله له، حين نحب شخص؛ فإننا نحب أي شيء منه مهما رأيناه غير مناسب. ولله المثل الأعلى؛ كيف به عز وجل حين يمنحنا شيئاً، وهو العليم الحكيم فضلاً على أنه عطاء منه سبحانه نحمده عليه، فهو الحكيم سبحانه يعطي كل شخص ما يناسبه حتى وإن ظن بقليل فهمه وإدراكه أنه لا يناسبه. واعلمي أن هذه نعمة ربما غيرك محروم منها، فعليك شكرها، بشكر الله عز وجل عليها، وأن تتقيه فيها.
- قالت باستغراب: وكيف أتقيه فيها يا أمي؟
- قلت: وهل فهمت ما سبق من كلام؟
- قالت: نعم، الحمد لله.
- قلت: الحمد لله، معنى أن تتقي الله عز وجل في نعمة أنعم بها عليك، أن لا تعصيه بها، يعني في حالة الشعر مثلاً؛ حين يصبح الحجاب فرضاً عليك؛ تتحجبي حجاباً يرضي الله عز وجل، كما أمرك الله. لا تهملي تلك النعمة، وأيضاً لا تسرفي في الاهتمام بها، مثلاً لا نشتري منتجات غير ضرورية بحجة الاعتناء به، لا نضيع أوقاتنا بالساعات أمام المرآة بحجة الاهتمام به وهكذا. وهذا كله جزء من شكر الله عز وجل على هذه النعمة.
- قالت: فهمت ذلك يا أمي؛ لكن أريد أن يصير شعري أفضل.
- قلت: جيد؛ أمامك طريقتان، الأولى أن تدعي الله عز وجل أن يصير أفضل، والثانية أن تهتمي به بما يجعله أفضل.
- قالت بحزن: أدعو الله عز وجل ولا يستجيب لي؛ فقد دعوته كثيراً أن يشفي جدتي؛ ولكنها ما تزال مريضة تتألم!
- قلت لها: كل دعواتنا لا تضيع عند الله عز وجل؛ بل يستجيب لنا ولكن بطرق مختلفة.
- قالت : كيف ذلك؟
- قلت: الله عز وجل يستجيب دعواتنا بثلاث طرق، إما أن تتحقق الدعوات كما دعونا، وإما يرفع الله عز وجل بها عنا مكروه كان سيصيبنا، أو يدخرها لنا الله عز وجل يوم القيامة ويجازينا بها جزاءاً عظيماً، وحينها سنتمنى لو لم يستجب الله لنا في الدنيا أي دعوة لما سنجده من عظم الجزاء، كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم. يعني يا حبيبتي، لعل الله عزوجل صرف عن جدتك مرضاً أشد وألماً أعظم بسبب دعواتك الكثيرة لها، ولعله الحكيم سبحانه يدخرها لكما يوم القيامة.
- قالت: نعم، الآن فهمت، الحمد لله.
- قلت: ألم يستجب لك الله عز وجل دعوات من قبل؟
- قالت: بلى، كثيراً.
- قلت: إذن لم لا تظني أن الله سيستجيب لك هذه المرة، لا بد أن نظن بالله خيراً في كل مرة وندعوه ونحن متأكدين أنه سيستجيب لنا، هكذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال عن رب العزة سبحانه:
( أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً.)،
ركزي على عبارة (أنا عند ظن عبدي بي).
- قالت: بإذن الله أدعوه وسيستجيب لي بفضله.
- قلت: إذن تدعي الله الكريم الوهاب، وتهتمي بشعرك لتأخذي بالأسباب، وهذه هي الثنائية النافعة لكل أمر، حسن التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب ونحن على يقين بأن الله عز وجل هو من سينفعنا بها بما يصلحنا. صمتت قليلاً وكأنها تقلب الكلام في رأسها ثم قالت: تقصدي أن الله سيفعل لنا الأمر الذي يصلح لنا، حتى وإن أخذنا بأسباب شيء آخر.
- قلت: هو كذلك بارك الله فيك. وهنا ابتسمت الصغيرة ولم تعد حزينة بفضل الله وحده.