قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب، وإن كانت لا تساكنه؛ لأنها لما انفردت لمعرفتها، انفرد لها بتولي أمورها، فإذا تعلقت بالأسباب، محا أثر الأسباب:
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: ٢٥].
وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف، حتى قال: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: ١٣]، فقالوا: ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف:١٧]، فلما جاء أوان الفرج، خرج يهوذا بالقميص، فسبقه الريح: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٩٤].
وكذلك قول يوسف للسَّاقي: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [يوسف: ٤٢]، فعوقب بأن لبث سبع سنين، وإن كان يوسف يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله، وأن التعرض بالأسباب مشروع، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة.
ومن هذه قِصَّةُ مَرْيَمَ: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: ٣٧]، فغار المسبب من مساكنة الأسباب: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧].
ومن هذا القبيل ما يروى عن النبي ﷺ: أنه قال: (أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب).
والأسباب طريق، ولا بد من سلوكها، والعارف لا يساكنها، غير أنه يجلي له من أمرها ما لا يجلي لغيره من أنها لا تساكن، وربما عوقب إن مال إليها، وإن كان ميلًا لا يقبله، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب.
وتأمل عقبى سليمان لما قال: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل وَاحِدَةٍ منهم غُلَامًا، ولم يقل: إن شاء الله فما حَمَلَتْ إلَّا واحدة، جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ».
ولقد طرقتني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب؛ إلا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة، ومداراته بكلمة، فبينا أنا أفكر في تلك الحال، دخل علي قارئ، فاستفتح، فتفاءلت بما يقرأ، فقرأ:
﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [هود: ١١٣]،
فبهت من إجابتي على خاطري، وقلت لنفسي: اسمعي! فإنني طلبت النصر في هذه المداراة، فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم، فاتني ما ركنت لأجله من النصر. فيا طوبى لمن عرف المسبب، وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فنسأل الله أن يرزقنا.