الجرأة على الأدلة

|

إن من أعظم ما ابتلينا به، وما يحول دون نشر الفضيلة، ودون تطبيق شرع الله؛ هو الجرأة على الأدلة، وقلة تعظيم الدليل الشرعي، ممن لا باع لهم في علم ولا فقه، ومنتهى أمرهم هو الاتباع والتقليد.

ترى المُبتلى بالجرأة والاستهانة أمام كلّ حكم شرعيّ، وكل أمر يخالف هواه؛ يصدح بـ: ما الحكمة من هذا؟ ماذا يقصد الرسول بهذا؟ ولماذا قال الله هذا؟ وهذا ليس ما أراده الله، هذا فهمكم أنتم، أنتم كيّفتم الدين كيفما تريدون، أنتم تفسدون وتفرّقون، أنتم تحتكرون فهم الدين، الشيخ فلان يقول غير هذا، ومقصد الدليل ليس هذا، وليس وليس.

يملك من الجرأة على الأدلة الشرعية ما يملك، ولا يتوانى في الهجوم على أصحاب العلم الشرعيّ والعلماء والشيوخ الأفاضل؛ بل وتعدى ذلك حتى وصل الصحابة وسنة الرسول. كلما أتيته بدليل طلب غيره، وكلما اتفق دليلٌ مع حاله طالب بفهم مخالف ليتبعه رغم وضوح الدليل. يطالب بجمعٍ من الأدلة، وبأفهامٍ مخالفة للحق، ثم إن ثبت ذلك؛ اتبع، وكثيرًا ما لا يتبع حتى وإن قامت الحجة عليه!

لقد ضعف تعظيم الشرع في النفوس، واستهين بحق الله، واستطيل على سنة رسول الله وعلى الصحب الكرام والسلف الصالح وكل من تبعهم واقتفى أثرهم.

وكان ذاك بأسباب أذكر منها ما وفقني الله لذكره وليس على سبيل الحصر:

  1. ضعف تطبيق الشرع؛ فالحكم بغير ما أنزل الله صرف الناس عن تعظيم دين الله، والنفوس ألفت ما تسميه بالحرية، وهُدِمَت حدود الله؛ فتجرأ العباد، وما وجدوا رادعًا.
  2. دعاوى العلمانية ومحاربة الدين ساهمت في هذا التبديل؛ بل وصار في صدور بعض الناس حرج من دينهم، وصاروا يحاولون التماشي مع المجتمع الحداثي؛ حتى صرنا نخشى عليهم من المروق عن الدين لأجل مسايرة الواقع والحداثة.
  3. لقد توجه النظر للدنيا والإنجاز فيها، وغاب عن كثر أن الدار الآخرة هي الحياة الحق، وأن الدنيا جسر عبور للآخرة، وما عمل المرء فيها هو ما سيعينه في الآخرة. هذا التحول في الغايات والوسائل؛ غيّر النفوس وأتعبها. 
  4. دعاوى الإنسانوية عظّمت قيمة المرء لنفسه، ورأى كل ما حوله هو تابع له، ولا يرى نفسه تابعًا، بل ويرى لنفسه استحقاقًا على الدين، ويرى أن الدين يسوّغ له تعظيمه لنفسه؛ فملّك نفسه حقًّا في الحكم على الشرع ومساءلته بل وفهمه كما يحب.
  5. صرف الأنظار لعمارة الأرض والاستخلاف فحسب؛ أضعف تعظيم حقوق الله كحق لله فحسب لا أثر له في بناء الدنيا، فكثير ما ترى من يريد نفعًا دنيويًا لعبادة ما أو شريعة ما؛ بل وضاقت بعض الصدور من بعض ما شرع الله كونها لا تخدم الدنيا. وتأمل ما قاله شيخ الإسلام ابن القيم؛ تفهم ما أريد: قال رحمه الله في الرسالة التبوكية: (فسبحان الله كم من حَزازةٍ في قلوب كثيرٍ من الناس من كثير من النصوص وبوُدِّهم أن لو لم تَرِدْ؟ وكم من حَرَارةٍ في أكبادِهم منها؟ وكم من شَجى حُلوقِهم من موردها؟ ستبدُو لهم تلك السرائر بالذي … يَسُوءُ ويُخْزِيْ يومَ تُبلَى السَّرائرُ).
  6. ودعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي محمد ﷺ، يلبسون على الناس دينهم، يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ويظن الناس بهم خيرًا. يبدلون شرع الله، ويحرفون الكلم بحسب هواهم، ويحاكمون الشرع إلى عقلهم البائس، فيجرّون من يتبعهم إلى ظلمات الجهل والكفر، كفرعون؛ إذ قال الله عز وجل فيه: {يقدم قومه يومه القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود}. كدعاة التنوير، والعقلانيين، والعلمانيين، والليبراليين، والديمقراطيين، وغيرهم ممن هم على شاكلتهم.
  7. الحكم بالعواطف، وهو مما ابتلينا به واستشرى شره؛ إذ صار الناس يحاكمون الشرع لعواطفهم، وما قبلته عاطفتهم قبلوه، وما ردته ردوه. إذا ذكر لهم حد ارتعدوا وجاشت عواطفهم وبدأوا يتحفونا: لا أظن أن الشرع شرّع هذا؛ لأن فيه قسوة.

وهنا يأتي السؤال: أهذا حال المسلم؟

والله ما هذا بحال المسلم المسلِّم! هذا اتباعٌ للهوى، هذا شر مستطر، وطريقٌ لجرفٍ هار يتخطّفنا وإيماننا. أيا مسلمون؛ أما يكفينا أنّ الدليل هو قول الله أو قول نبيه؟ أما يكفينا أن يقال أن الصحابة فعلوا هذا، وسلفنا قبلوه كما هو؟ أولا نعلم أنّنا مأمورون بالاتباع؟

وجوب اتباع رسول الله محمد ﷺ:

نحن مأمورون باتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-وطاعته، ونجد هذا في آيات كثيرة في كتاب الله جل وعلا. وأذكر بعضها:

قال سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32].
وقال الودود: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].
وقال عزّ من قائل: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].
وقال جل ثناؤه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
وقال مولانا تبارك وتعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92].

وكلها حجة بينة في وجوب اتباع الرسول وطاعته لمن عقل، ولا يثبطنا الجهلة المرتدين من القائلين بترك اتباع الرسول وسنته والعكوف على القرآن وحده واتباع ما فيه فقط؛ ففي القرآن الحجة والرد على هواهم وكفرهم، ولا يخفى هذا على مسلم.

ولا ينبغي لعاقل منا أن يقدم قول أحد على حديث الرسول؛ فيأتينا حديث ونرده لأجل أن شيخًا ما يقول بعكسه أو يتأوله.

قال أبو داود السجستاني في حائيته التي جمع بها أصول الإيمان:

ودع عنك آراء الرجال وقولهم *** فقول رسول الله أزكى وأشرح

وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية):

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة *** بين الرسول وبين رأي فلان

بل ولا ينبغي أن نقدم قول الرجال ورأيهم وتأويلهم على كلام الله سبحانه؛ فإن أتتنا آية رددناها أو صرفنا معناها اتباعًا لأئمة الضلال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اللامية:

وأقول قال الله جل جلاله *** والمصطفى الهادي ولا أتأول

وقال فيها:

قبحًا لمن نبذ القرآن وراءه *** وإذا استدل يقول قال الأخطل

وقال ابن القيم رحمه الله في النونية:

العلم قال الله قال رسوله *** قال الصحابة هم أولو العرفان

وجوب اتباع سبيل المؤمنين، وأولاهم: صحابة رسول الله ﷺ:

نحن مأمورون أن نتبع سبيل المؤمنين، ونؤمن بما آمنوا به. قال تقدّست أسماؤه: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].

في تفسير الطبري: (“ويتبع غير سبيل المؤمنين”: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم).

“غير طريق أهل التصديق”؛ يعني أننا معاشر المسلمين أهل تصديق، أهل اتباع، نؤمن بما آتانا الرسول ومن تبعه، نصدق بخبر السماء، وبما شرعه لنا من سكن السماء، وما أوصله لنا رسول رب السماء، وما أتانا به من نطق الوحي بفضلهم؛ الصحب الكرام، وما وصل لنا من أخبار من سلف الأمة الذين شهد رسولنا ﷺ لهم بالخيرية في قوله: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ” رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود.

ولصحابة رسول الله ﷺ عظيم الفضل رضي الله عنهم، حملة الدين، ناصري رسول الله ﷺ ومؤيديه، أثنى عليهم الرسول ﷺ، ورضي الله عنهم إذ قال:

﴿۞ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]، وامتدحهم ربنا المنان إذ قال: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].

وفضل الصحابة أتى من حسن اتباعهم لأمر الله ورسوله، ومسارعتهم في الامتثال، ونقاء منبع علمهم، وعكوفهم الصادق على القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ. قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة: (ولم يكن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك).

“الصحابة كانوا يستمعون القرآن بنفسية غير نفسيتنا ونية غير نيتنا. كانوا يستمعونه بنفسية الذي ينتظر الأوامر للتنفيذ الفوري، محبة وتعظيمًا وخشيةً ورجاءً. كانوا يفهمون جيدًا وينفذون قول ربهم عز وجل:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ﴾ [الأحزاب: 36]. 

فالاختيار بين طاعة الله ومعصيته ليس واردًا عندهم. كانوا ينتظرون الآيات مشاعل تهديهم في الظلمات…نفوسهم أرضٌ عطشى تنتظر كلام الله انتظار المطر لتتشربه فيثمر من بذور الإيمان فيها أبهى الثمر…جهدهم كله منصب على: (كيف ننفذ أمر الله كما يحب الله)” [إياد القنيبي، بهم فاقتدوا].

هذا مبنى فضلهم، وسبب تفوقهم وعلمهم، لقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لهم شرف الصحبة، وشرف رضى الله، وشرف أمر رسول الله باتباع سنتهم وهديهم من بعده؛ إذ قال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”.

ولا نلتفت لقوم طعنوا في الصحابة وفضلهم، ولا إلى قوم ساووا بين عقولهم وعقول الصحابة، وفهمهم وفهم الصحابة؛ ويقولون لنا هم رجال ونحن رجال! ليست كل الرجال واحد، والأفهام متفاوتة، ومن نال ما ناله الصحابة وكان حاله كحالهم، ليس كمن اتكأ على أريكته وحاكم الشرع لهواه!

قال أبو داود السجستاني في حائيته:

روى ذاك قوم لا يرد حديثهم *** ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا

وقال فيها:

وقل خير قول في الصحابة كلهم *** ولا تك طعّانًا تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم *** وفي الفتح آي في الصحابة تمدح

فالتجرؤ على الصحابة والطعن فيهم واتباع غير سبيلهم وجعلهم كباقي الناس، هو طعن في الدين، طعن بجملة الأدلة والنصوص، وفتحٌ للباب بمصرعيه للتجرؤ على الأدلة والنصوص؛ إذ هم من حمله ونقله وعلمه للتابعين، وبهم نطق الوحي الشريف؛ فلنحفظ لصحابة رسول الله ﷺ فضلهم، ونتبع أثرهم، ولا نلمز خلفاء رسول الله ﷺ ونقارن أنفسنا بهم بقولنا هم رجال ونحن رجال؛ بل هم خيرة الرجال، ونحن نجتهد في أن يكون حالنا كحالهم، ولنا في انقيادهم وطاعتهم خير أمثلة: فهؤلاء الصحابة أراقوا الخمر لما حُرِّمَت وكسروا جرارها، وفي أثر صححه الشيخ أحمد شاكر قالوا: انتهينا ربنا.

وهذا أبو بكر بعد أن قطع النفقة على مسطح لما خاض مع الخائضين في حادثة الإفك، ثم لما نزلت آية ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]؛ أعادها عليه وقال لا أقطعها أبدًا [عمدة التفسير].

وهذا معقل يزوج أخته لزوجها الذي طلقها لما نزلت

﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 232] 

ويقول: الآن أفعل يا رسول الله. الآن الآن؟ نعم، هذا حالهم: الآن أفعل. فإن أردنا أن نكون مثلهم؛ فلنطع مثل طاعتهم. رضي الله عنهم وجزاهم عن المؤمنين خير الجزاء.

الباحث عن الحق، يكفيه دليل واحد:

قال الشيخ الألباني رحمه الله: (طالبُ الحقِ يكفيه دليل، وصاحبُ الهوى لا يكفيه ألف دليل. الجاهل يُعَلَّم، وصاحبُ الهوى ليس لنا عليه سبيل).

الباحث عن الحق بصدق، يكفيه دليلٌ واحد، يكفيه نصحٌ صادق، حتى يمتثل ويطيع. ومتى ما حلّ الهوى في القلوب؛ تنصّل المرء من اتّباع الدليل، وبدأت حججه ومغالطاته تزيد؛ بل حتى وصل الأمر بالبعض أن يقولوا: لستم من يفهم الدين، ونحن لنا أفهامنا، هذا من فهمكم وليس الدين؛ متخذين هواهم إلهًا، متّبعين لشياطينهم ونفسهم الأمارة بالسوء؛ ظانين أنّهم لن يؤاخذوا إن حرفوا الشرع واحترفوا تبديله. الذي يريد اتباع الحقّ، لا يحتاج لإقناع ولنصوص طويلة وتعليقات شيوخ كثر؛ بل يكفيه سماع قال الله وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمل الصحابة رضي الله عنهم ليفعل أو ينتهي.

لا نحتاج لأدلة كثيرة حتى نقتنع، ما يقوم عليه ديننا هو التّسليم والامتثال: {سمعنا وأطعنا}. لا نحتاج مئة دليل لنقتنع أنّ الحجاب فرضٌ، وأن الاختلاط محرّمٌ، وأنّ المعازف شرٌّ ولهوُ حديثٍ حرامٌ، وأنّ التّدخين محظورٌ، وأنّ القزع منهيٌّ عنه، وأن طاعة الزوج واجبة، والأفلام والمسلسلات محرّمة وتافهة، وغيرها.

ولنعلم أن ديننا دين اتباع، قال إسحاق بن راهويه -رحمه الله تعالى-: (إنما نحن أصحاب اتباع وتقليد لأئمتنا وأسلافنا لا نُحدِثُ حَدَثَاً ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول اللّٰه ﷺ ولا قاله إمام) [السنة للخلال].

نحن متعبّدون بالاتباع مأمورون به، وهو امتحان لنا ولإيماننا؛ أفكلما جاءنا أمر ونص طلبنا دليلًا وحكمةً له؟ إذًا كيف نكون مسلمين؟ وبماذا كان فضلنا إن لم نتبع؟

قال أبي عبد الله البوشنجي رحمه الله: (ولو كان كلّ ما أتى به الحُكم من الله عز وجل والأمر بتعبده، أتانا مكشوفًا بيانه، مُوضحةً علَّته، لم يكن للعباد بلوى ولا محنة، وإنما المحن الغلاظ والبلوى الشديدة للأمور والفروض التي لا تُكشف عللها، ليسلِّم العباد له تسليمًا، ويقفوا عندها إيمانًا). فلنرضى لأنفسنا ما كتبه الله علينا، ونسلّم ونتبع.

ثم لنتذكر أن الدنيا فانية، وكلنا سيحاسب. عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة” أخرجه البخاري ومسلم. فلنتخيل أنفسنا يوم الحساب، عراة مذهولين، ننادى فلان ابن فلان، ميعادك مع الله، ويسأل رب الأرباب وقد غضب غضبًا لم يغضب قبله قط: لماذا ما اتبعت؟ لماذا ما أطعت؟ أنقوى على قول: لم أقتنع، لم أسلّم لأمرك يا الله؟ والله إنه أمر جلل، وموقف لا نقوى على التفكير به؛ فكيف بمعايشته؟

فلنستعذ بالله، وننفض عن قلوبنا غبار القسوة والكبر.

لنتعلم ديننا؛ ليعلو إيماننا، لنتجهّز ونسقِ قلوبنا بنور الحق وحسن الاتباع؛ أما نرى أن سنن الاستبدال ماضيةً لا تُحابي أحدًا؟ أنرضى بالهوان بعد أن أعزنا الله بالإسلام ورفع قيمتنا به؟ أنرضى أن نكون جريئين على ديننا بجهل يردينا المهالك؟

فلنستعذ بالله، ولنأخذ من صحابة رسول الله مثالًا في التسليم والطاعة، لنقرأ عن قصصهم وامتثالهم لأوامر الله وهم حديثي عهد بإسلام، كيف أراقوا الخمر يوم حرمت، وكيف وصلوا رحمهم لما آذوهم، وكيف وكيف. لنأخذهم قدوةً ونحذو حذوهم. لنعظم ديننا حتى نعزّ به، لا جعلنا الله من المستبدلين.

ولا أنسى أبدًا صاحب محل الملابس، الذي وجدت على حزام تنورة في محله كفًّا محفورًا عليه نجمة وحروف مقطعة، وأريته إياها وقلت له حكمها، ثم خلعها سريعًا وألقاها خارج المحل. لا أنسى مسارعته في هذا، لم ينتظر ثانية، ما أنهيت الكلام حتى خلعها سريعًا. ولا أنسى الشاب الذي كان في بث مباشر مع شيخ؛ فأشار الشيخ إلى عنقه، ففهم الشاب من الإشارة أنه يقصد السلسلة التي يلبسها في عنقه؛ فخلعها سريعًا وابتسم، بإشارة فقط!

رزقنا الله حسن الامتثال والانقياد، ولا فتننا في ديننا وجرّأنا عليه.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ما كان من صواب فمن الله وتوفيقه وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة