﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [ الجاثية: 23]
كنت أستمع للآية الكريمة، وأعيدها مع المقرئ، في عزاء أختي الحبيبة، وكانت أوصالي ترتعد، كان جسدي يرتعش حقيقة، لم أشعر بمعنى هذه الآية من قبل، كنت أردد صوت هولها في قلبي: “أنا من اتخذت إلهها هواها، غفرانك يا رب، اللهم اغفر لي”، أنا من أرادت إظهار مفاتنها للجميع، ونست أنها مسلمة، أمرها الله بالستر، اللهم اغفر لي زلتي وضعفي واهدني.
كان الجميع ينظر لي وهو يراني أرتعش وأنتفض وأبكي، ظناً منهم بأني أصبت بوعكة أو أني أهذي جراء حزني، لم يعلموا أن مصابي بنفسي التي ماتت، أشد وقعا من ألم فراقي لأختي الحبيبة، كانت نعم المرأة ونعم المسلمة كمال كان يقول زوجها عنها مستدلاً بالآية الكريمة قال عزو جل: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ﴾[النساء: 34].
كانت سماح دوّامة على نصحني، وأنا أضحك وأقول لها:
- مازلت شابة صغيرة، أريد أن أعيش حياتي!
كانت ترد علي، وتهز رأسها:
- الله يهديكِ يا صغيرتي، ومن قال: إن الذي ترتكبينه بحق نفسك حياة؟!؛ هو موت يا عزيزتي، ولكنه موت قلب!
كنت أراقب انصرافها وهي تهز رأسها متحولة، وهي تقول: أسال الله أن يهدي أختي قبل فوات الأوان، لم تكن سماح تكبرني كثيرا، كان بيننا خمس سنوات فقط، أختي الشابة، التي كان حجابها يسترها من رأسها لأخمص قدميها، كانت الصديقة والأخت والركن الذي ألتجئ إليه في حزني وفرحي، رحمك الله يا حبيبة، لا أزكيها على الله، ولكنها كانت بشهادة زوجها وكل من عرفها، صالحة قانتة، اللهم اغفر لي، كيف لم أستمع لها يوما، كنت أستمع لها بكل شيء ما عدا الحجاب! ، كان الران يغلف قلبي فضعت، و مرت سنوات طويلة دون شعوري بالذنب الذي ارتكبه بحق نفسي…
قال تعالى: ﴿بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[ المطففين: 14]
نهضت و ركضت مسرعة إلى غرفتي، كنت أريد أن أختلي بنفسي، لكن هذا الحزن لم يمنعني من التفكير بمصيري، إن استمررت على هذا الحال…
أذكر تلك الفتاة …!
أنا شهد، عمري تسعة عشر عاماً، كنت مدللة منذ صغري، كل الأمور بالنسبة لي سهلة، ما أطلبه مهما كان يلبى!، و لم يكن هناك كلمة ( لا )لما أفعل، إلا في نوادر قليلة، نشأت وتربيت في بيت محب حنون، لدي أخت رحمها الله ( سماح ) ، وأخي ( سامي ) هو أكبرنا، ولربما كان هذا هو سبب، تدليلي الزائد من الجميع.
كان والدي يقول:
- هذه شهد العسل، هذه آخر العنقود، إن شاء الله تنشأ هي وسماح، بالصلاح والتقوى كي تكونا سببا لي للجنة، فعن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله ﷺ: (من عالَ جاريتينِ دخلتُ أنا وَهوَ الجنَّةَ كَهاتين وأشارَ بأصبُعَيْهِ) رواه الترمذي ومسلم1
لترد عليه والدتي:
- بل هذه حبة القلب، و مهجة فؤادي… إن شاء الله، ينعم علينا جميعا و (ندخل كلنا ) بإذن الله.
وكانت تؤكد على جملة ( ندخل كللللنا ) وعندما تنتهي تبتسم وما تلبث حتى تضحك.
إلا أن والدي أدركه الموت، قبل أن يبصرني كبيرة، أم أقول أن الله توفاه قبل أن يشهد ابنته تضيع ما تمنى، وتبخر ما كان يطمح له، وأن يفخر بابنته المحجبة !…
حين توفي والدي شعرت بأن شيئا لم يعد كما كان سابقا، كنت في الثامنة، كنت أشعر في تلك السن أني هشة ضعيفة، تماما كريشة في مهب الريح، طفلة تنتظر أباها وراء الباب كعادتها، ليحضر معه الحلويات والأطايب، وهو مبتسم كعادته، لم أدرك حقيقة معنى أن يرحل زر الأمان الذي كان يحميني، وحتى الآن لم أتخط شعور فقدان والدي رحمه الله، هناك حزن كبير وعميق ولكنه خفي، أشعر به عندما أرى قريباتي بقرب آبائهن، وربما هو حسد ولكن ليس من النوع المؤذي، فقط كنت أتمنى لو كان والدي في محطات حياتي اللاحقة…
زهرة يانعة ولكن!
أصبح عمري أربعة عشرعاما، كنت أرقب الاختلاف البادي علي، كل من أعرف لاحظ ذلك، وبدأت نظرات الجميع تلومني، كان لباسي يناقض شخصيتي، كنت أصلي، ولكني لست محجبة، أحيانا كانت تراودني تساؤلات – مثلا، كيف ألبس كمّا قصيرا، وعند الصلاة ألبس ثياب الصلاة، ثم أخلعها وكأني لم ألبسها!، ولكن هواي كان يرد الجواب مباشرة_ لا بأس أنا أفعل الخير و أحب الناس وأتصدق، ولا أعتقد أني أرتكب إثما يستدعي هذه الأسئلة، كان الأمر كله يمر بثوان عديدة ويتلاشى.. وكأنه لم يكن أصلاً.
كان أخي قد سافر من أجل عمل، وبدأت صحة أمي تتراجع، كانت تلازم الفراش أغلب أيامها من مرض ألم بها، أصبحت أقوم على رعايتها، ولطالما ترضّت علي و أختي التي كانت تزورنا بشكل دوري لتقوم برعاية أمي، والتي كانت حينها عروسا.
ومرت سنتين حتى قسمني الحزن لأول مرة، وفاة والدي لم تفعل بي ما فعل غياب الفرح في البيت، عندها لم أعد أرغب بالاستمرار، كان اليأس والعياذ بالله يلف عالمي، كنت أصلي وأسجد لفترة طويلة، وأنا أبكي وأدعو الله أن يثبتني، وعندما أنتهي أكرر بسم الله الرحمن الرحيم الَّذِينَ ﴿ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة : 156]
كانت سماح سببا كبيرا، في تخفيف ذلك الحزن في قلبي، كانت نفسي تضعف، ثم أرتمي في حضنها لأجدني أبكي بكاء الأطفال، لم أفكر ماهو الحزن الذي يزوي ملامح الجمال في أختي، ولكن شعرت بذلك الحزن الراقي، الذي يخرج بصبر وثبات، عرَفت سماح أنها الكبرى وأن دورها أن تكون سندا، رغم أنوثتها ورقتها، ولكنها كانت قوية جدا، ولطالما استغربت ذلك البأس البادي عليها ، حتى جدتي التي أقمت معها بعد وفاة أمي، كانت دائما ما تقول: أختك جبل ما شاء الله، الله يشد على قلبها وقلبي، وبالطبع كانت جدتي بدورها تحتاج من يقويها بموت أمي، ولكن جدتي كانت قوية بإيمان صادق.
كبرت و بت فتاة مكتملة الأنوثة، غرني الجمال وسرقت مني نفسي ستري…
زيارة … غيرت كل شيء!
اليوم يكون قد مر أسبوع على وفاة أختي، لقد مر بطيئا جدا، لقد شُلّ الجناح أو كسر.
سوف تزورني اليوم صديقتي خلود، لم أرها منذ فترة لأنها تزوجت وسافرت، و قد عادت من سفرها يوم أمس…
- البقاء لله يا حبيبتي، رحم الله سماح كم كانت مؤمنة و صابرة و عظيمة بكل حياتها.
- حياتها كانت قصيرة ..لقد رحلت باكرا…
- لا تقولي هذا يا شهد… استغفري الله و اطلبي لها الرحمة، فهذه الدنيا متاع الغرور.
- أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا حزينة جدا يا خلود، الحمد لله لقد أرسلك الله لي لتشدي أزري، أنا ضعيفة جدا كما لم أكن من قبل.
- اسمعيني يا صديقتي، تقول الحكمة ( صديقك من يصدقك).
- نعم صحيح…
- لقد مررت بمصاب عظيم، ويجب أن يكون الابتلاء عظة لنا كمسلمين ومسلمات، إن الله يرسل الموت والأحزان لأنه رحيم بنا يريدنا أن نلجأ إليه ونؤوب ونتوب، وأنت الآن في ريعان الصبا، وإن كان الموت لا يردعنا عما نفعل من خطأ أو عصيان أو ذنب، ماذا يردعنا إذن؟! وقد رأيت أختك كيف توفاها الله فجأة، فالموت يأتينا بغتة قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
فالموت ليس له موعد، وقد خصه الله بعلمه، قال تعالى ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ﴾ [ لقمان: 34]
ونحن المسلمون مطالبون بالعمل والاستعداد؛ فهنا في الدنيا الفانية عمل بلا جزاء، وهناك أي في الآخرة جزاء بلا عمل.
ودعيني أسألك سؤالا ؟ هل تصورت يوما أن تموت أختك، فجأة في هذه السن، ربما كنت تحسبين أن الموت بعيد جدا، رغم معرفتك بأنه الحق واليقين!
وقبل أن تجيبي، الجواب هو لا قطعا، رغم أنا نعلم أن الموت حق، ولكن الأمل يغلب البعض منا، فطول الأمل هو ما يوافق الهوى و النفس الأمارة بالسوء.
والآن قد علمت ماذا أود أن أقول لك وما هو الموضوع الذي أريد أن أتحدث معك فيه وقد خضته معك مرات عديدة.
- تفضلي أكملي، أنا أستمع ولن أقاطعك أبدا، على العكس حديثك يريحني، يذكرني بحديث سماح رحمها الله، هذه نفس كلماتها، ونفس أسلوبها طالما شبهتك بها.
- جمعنا الله في الجنة آمين؛ إذن أبدأ وأنا مرتاحة، لقد قصرت علي المسافة، أنت في مرحلة نضوج جسدي وفكري، لقد مر عليك سنوات طويلة، وقد سلمت نفسك لشيطان النفس والجن، قال تعالى ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [ النساء :120]
أحسب أن الفتاة في عصرنا هذا قد تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض كفعل اليهود أعاذنا الله، فهي تقرأ القرآن و تصلي ووو، وهذا كله ظنا منها أنها تغطي الشمس بغربال، فهي في نفسها تعلم علم الحق بأن الحجاب فرض ولكنها في معركة الفتنة، ترغب بأن يحملق الجميع فيها، متناسية أنها تكون سببا بفتنة كثير من الرجال والشباب، ولربما وقوعهم في الكبائر، ولاأريد أن أجمل الكلام، قد تكوني أنت لست من هؤلاء، ولكن فيك شيئ منهن، وهو الهوى، الذي يسحبك لنهاية لا تحمد عقباها.
وكما تعلمين وأعلم، فالحجاب بإجماع العلماء فرضا واجبا على كل مسلمة بالغة عاقلة.
قال تعالى : ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]
وقال الله عزو جل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [ الأحزاب: 59]
ثم انظري بعد أن نزلت الآية، كيف كانت نساء النبي وبناته ﷺ رضي الله عنهن وأرضاهن، ونساء الصحابة وبناتهن، سمعا وطاعة، فكن قانتات صالحات طائعات.
(فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الْأَكْسِيَةِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.2
و (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا نَزَلَ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ شَقَقْن أَكْنَفَ مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبُخَارِيُّ.3
والمروط جمع مرط وهو كساء تستتر به المرأة.4
و(الإدناء: هو الإرخاء والإسبال على الوجه والبدن أيْ: يسترن أجسامهنَّ من الرّأس إلى القدم، والإدناء أصله التّقريب، من جلابيبهنَّ: من ابتدائية، والجلباب هو ثوب يُلبس فوق الثّياب الدّاخلية وهو ثوب يستر جميع الجسم والصّدر، وأمّا الخمار فهو غطاء الرّأس تحديداً، وأمّا الجيب: فهو فتحة الصّدر)5
والجلباب لغة:
القَمِيصُ. والجِلْبابُ: ثوب أَوسَعُ من الخِمار، دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به المرأَةُ رأْسَها وصَدْرَها، وقيل: هو ثوب واسِع، دون المِلْحَفةِ، تَلْبَسه المرأَةُ، وقيل: هو المِلْحفةُ. (ابن منظور)6
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في ريد عن سائل حول وجوب الحجاب:
(ثم قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] والجلباب ما تضعه المرأة فوق رأسها وفوق ثيابها زيادة في التستر، وتستر به وجهها ويديها علاوة على ما عليها من الملابس، ولم يقل: إلا وجهها وكفيها في هذا المقام، ولا في قوله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، لم يقل إلا وجهها وكفيها، بل أطلق الأمر بذلك، فدل ذلك على أنه لجميع أجزاء المرأة، ولأنها عورة، ولأن وجهها وكفيها عنوان جمالها أو دمامتها، فالمرأة تعرف جمالها وضده من وجهها وأطرافها، فدل ذلك على أن الستر لهذا من أهم المهمات، حتى لا تكون سبب الفتنة، وحتى لا يطمع فيها أصحاب الهوى والانحراف). 7
- و دعيني أكمل لك الدلائل العظيمة من القرآن والسنة على وجوب ستر الفتاة والمرأة المسلمة، لتعكس صورتها وهويتها، وطاعة ربها، ولا يظهر هذا إلا بتأدية الستر، لأن ذلك يقي الفتن و يدخل الجنة.
عَنْ أم سلمة رضي الله عنها أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ لَهَا أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلا هذَا وَهذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ». رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ.8
شروط الحجاب الشرعي

- والآن يا صديقتي، هل رأيت، أن الله عزو جل رحيما بالمرأة، حين جعلها درة مكنونة غالية الثمن، أمرها بالستر، لتصون نفسها، وتحرص على مفاتنها، إلا لزوجها، ومحارمها؟!، هل ترين إكرام الخالق عزو وجل لنا كإناث بأن جعلنا محصنات محجوبات عن كل نفس شهوانية، انظري كيف نعامل، وانظري كيف يعامل عبيد الشهوة والتحرر الغربي والمتغربنون السيارات والمجوهرات و الذهب والفضة ! ويضعونها تحت أشعة الليزر ويحمونها بكلمات سر و وراء جدران محصنة، بينما أصبحت المرأة عندهن سلعة للنظر والمتعة، يتعاملون معها كمن يتعامل مع بضاعة كسدت و رخصت، في العمل والإعلام والشارع، ويطلبون منها أن ( تتحرر جسديا ) وأن تخلع الحجاب و ترتدي كل ما قل قماشه وزاد سعره، لأن المجتمعات الغربية والتي تحتذي حذوها باتت تتغذى على المرأة، وتستهلكها أيّما استهلاك!
ودعيني أخبرك عن شروط الحاجب الشرعي الذي أمرنا الله و رسولنا ﷺ:
أولاَ: استيعاب جميع البدن
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [ الأحزاب: 59]
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود : كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكن إخفاؤه) 9
ثانيا: لا يكون زينة في نفسه
أي لا يظهر منه الزركشة و والفتنة كالأثواب المزينة بالأحجار الكريمة مثلا و ما شاببها من لياس فيه فتنة ولفت نظر .
و(قوله تعالى : وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى سورة الأحزاب:33] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا ، وأمة أو عبد أبق فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم ) 10
ثالثا: لا يصف ولا يشف وأن يكون فضفاضا واسعا
لأن غاية الحجاب هي الستر والعفاف، ودرء الفتن، التي قد تقع جراء شكل المرأة المتزينة، وفي هذا العصر بتنا نرى كثيرا من النساء اللواتي يخلن أن الحجاب هي قطعة قماش تلف على الرأس و ما دونها انتهى، فإن كان الرأس يجب أن يغطى وهو جزء من الفتنة، فإن من باب أولى تغظية البدن الذي فيه من المفاتن ما فيه، و يعكس صورة المرأة بكل تفاصيلها، عدا عمن تظهر بلباس قصير وقد ظهر كل لون جلدها وشكلها كما خلقها الله، لأن هواها غلبها فضيعت كل شيء.
(وعن أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)11
وفي الحديث أيضا (كساني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دِحْيَةُ الكلبي فكسوتها امرأتي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : مالك لا تلبس القبطية؟ فقلت: يا رسول الله! كسوتها امرأتي، فقال: مرها أن تجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها)12
رابعا: أن لا تتعطر به المرأة ولا تتخبر بعود أو أي روائح زكية
وذلك أن هذه الرائحة قد تقع في نفس الرجال، فتحصل الفتنة، بل قد تكون هذه الرائخة سببا في ارتكاب معصية للرجل والمرأة على حد سواء.
عَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ وَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)13
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة).
وقد لَقِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ امْرَأَةً وَهِيَ تَعْصِفُ رِيحَهَا ، قَالَ: يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ الْمَسْجِدَ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: وَلَهُ تَطَيَّبْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَارْجِعِي إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ تَعْصِفُ رِيحَهَا فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا صَلاةً حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ)14
عَنْ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي زَيْنَبُ الثَّقَفِيَّةُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: ( إِذَا خَرَجَتْ إِحْدَاكُنَّ إِلَى الْعِشَاءِ، فَلَا تَمَسَّ طِيبا)15
خامسا: لا تتشبه بلباس الكافرات
لأن الله ورسوله نهونا عن تتبع أثر من قبلنا، من الكفار، رحم الله الشيخ ابن باز حيث قال : (لا يجوز للمسلمات ولا للمسلمين تقليد الغرب ولا الشرق في أزيائهم الخاصة التي ليست من عادة المسلمين؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن التخلق والتشبه بأعدائنا قال : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19] وقال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] ذمًّا لهم وعيبًا لهم في خوضهم كما خاض الأعداء، وقال النبي ﷺ: من تشبه بقوم فهو منهم …)16
سادسا: أن لا تتشبه بالرجال
ذلك لأن الله يلعن من تتشبه بالرجال و تتصف بصفاتهم، من لباس أو تقليد في التصرف، وهذا بتنا نراه كثيرا في مجتمعاتنا الإسلامية، فهناك من تتباهى بأنها تتساوى مع الرجال، فسيمة المرأة هو الحياء والتلطف والأنوثة، والابتعاد عما يخشن و يعمل على تغيير صفاها الأنثوية التي فطرها الله عليها.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةً، مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاء)17
وعَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ” أَنَّ النَّبِيىَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فُلَاناً، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَاناً – أَوْ فُلَانَةً.18
سابعا: لباس الشهرة
وهو من باب الاستعلاء والرفعة والخيلاء، فقد حرّم الله الكبر والعجب، و نرى في حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً)). 19
- وهنا أتوقف عن الكلام، وأسال الله يا صديقتي الغالية، أن يدخل النور لقلبك، ويرزع السرور فيه، ويجعلك من الصالحات الفائزات، وأنا أعلم أنك أهلا لذلك إن شاء الله، ولكن كل شيء يبدأ بالخطوة تجاه الطريق الصحيح، والابتعاد عن كل ما يردنا عن طاعة الله…
- الله كم كلامك جميل، لقد سافرت وعدت مع كلامك، أنت لا تعرفي أني أفكر بارتداء الحجاب.
- حمدا لله، وهذا ما جئت أدعو الله أن ييسره، وأن أكون سببا في تجملك و سترك.
- جزاك الله عني كل خير، وأسعد قلبك، أنت نعم الصديقة والأخت ولطالما كنت.
- إذن عديني أن تخطي الخطوة بعزم وثبات.
- أعدك، وأسال الله الهداية لي ولكل مسلمة.
لم أخبركم أني أصبحت جميلة، جميلة الفكر والنفس، لقد تغلبت على هواي، في حربي بعد معارك كثيرة كان ينتصر فيها علي كل مرة، صار جسدي كنزي الثمين فهو يعكس هويتي كمسلمة، صرت حرة، بعد أن كنت عبدة التقليد والتغريب والموضة، رحم الله أبي وأمي وأختي، وجمعني بهم في جنان الخلد، وجزى الله صديقتي الصدوق على ما فعلت، فأنا الآن
قوية منيعة من أعين الشهوة، أنا الآن….فتاة محجبة!
(قوارير) سلسلة من تأليف عبير ياسين القزاز
وهي سلسلة قصصية منفصلة، عن أهم الإشكاليات والحوادث الحياتية اليومية، و الشكوك حول بعض الأحكام الشرعية، و التي تخص المرأة والفتاة المسلمة، من خلال التركيز على الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، و توضح الشبه التي قد تقع بها النساء والفتيات والمسلمات بها.
المراجع
- رواه الترمذي (1914) و أخرجه مسلم (2631) وصححه الألباني ↩︎
- «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم» (3/ 168) ↩︎
- نفس المرجع السابق ↩︎
- المرجع السابق ↩︎
- «تفسير القرآن الثري الجامع» (22/ 29 بترقيم الشاملة آليا) ↩︎
- كتاب إظهار الحق والصواب في حكم الحجاب، صفحة 9 ↩︎
- موقع الشيخ ابن باز رحمه الله – أدلة الحجاب من القرآن ↩︎
- تفسير القرآن الثري الجامع. سابق ↩︎
- الإسلام سؤال وجواب – صفات الحجاب الصحيح ↩︎
- الإسلام سؤال وجواب سابق ، الحديث أخرجه الحاكم (1/119) وأحمد (6/19) من حديث فضالة بنت عبيد وسنده صحيح وهو في ” الأدب المفرد ” ↩︎
- الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق – الجزء 6- صفحة – 170 و الحديث أخرجه مسلم (2128) ↩︎
- الموسوعة الحديثية – قد احتج به مسلم واستشهد به البخاري. ↩︎
- معجم السفر، أبو طاهر السلفي) الصفحة 284- رقم 942 ↩︎
- فوائد منتقاة من حديث أبي شعيب الحراني (ص27 بترقيم الشاملة آليا) ↩︎
- مسند أحمد» (44/ 597 ط الرسالة، الجزء 44 – صفحة 597، رقم 27047 ↩︎
- موقع الشيخ ابن باز رحمه الله ما حكم تقليد الكفار في أزيائهم وملابسهم؟ ↩︎
- الكتاب: المعجم الأوسط، المؤلف: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260 – 360 هـ)، المحقق: أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد – أبو الفضل عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين القاهرة ( 1415 ه – 1995م) جزء 4- صفحة 212- رقم 4003 ↩︎
- مسند الدارمي – ت الزهراني» (2/ 872) درسه وضبط نصوصه وحققها: الدكتور/ مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني.
الناشر: (بدون ناشر) (طُبع على نفقة رجل الأعمال الشيخ جمعان بن حسن الزهراني)الطبعة: الأولى، 1436 هـ – 2015 م. ↩︎ - حجاب المرأة المسلمة ” ( ص 54 – 67). ↩︎