في غمرة الدنيا وأحداثها المرهقة؛ يجد الواحد منا نفسه غارقاً في دوامة الأحداث المتسارعة في عصر بات القلق وتقلب الحال المتسارع سمة من أبرز سماته، فلا يكاد المرء يخلو بنفسه ويأنس بربه عز وجل، إلا أن من نعم الله علينا التي لا نعطها قدرها أن منَّ علينا بسنن من الأذكار تصحب المسلم في كل حال يكون عليه؛ إنه ذكر الله.
ففي صباح المسلم ذكر وفي مسائه ذكر، قبل نومه وبعده ذكر، قبل طعامه وبعده كذلك ذكر، قبل دخوله الخلاء ذكر، بعد وضوئه ذكر وبعد صلاته ذكر، عند دخول المسجد والخروج منه ذكر وكذا عند دخوله بيته والخروج منه، عند ركوب دابته أو سيارته ذكر، وعند صعوده ذكر وعند نزوله ذكر، وإن زدنا وسع واحتمل أحوال شتى؛ فالذكر على كل حال سبحان الله!
وهذا من رحمة الله عز وجل بنا؛ إذ بذكر الله تسكن النفوس وتطمئن القلوب وتحل البركة ويزيد الإيمان ويتحصن الإنسان من أذى الإنس والجان. ولا أنسى كلمةً لشيخ يحكي موقفاً له مع أحد العمال؛ إذ في غمرة عمله توقف فجأة وترك ما بيده وجلس مستكيناً على كرسيه، فسأله عن توقفه، فأخبره أنه وقت أذكار المساء، فسأله الشيخ: (وما منعك أن ترددها في غمرة العمل)، فأجابه فيما معناه أن كيف يفقه ما يقول وهو منشغل بغيره؟
فسبحان الله! هذا رجل أعطى للذكر حقه وعرف قدره؛ فآثره على غيره، فكأني بنفسه متنعمة بنعيم لا يرى وإنما يحس وإن كان ظاهر الحال على الخلاف؛ فقد قال مالك بن دينار: (ما تنعَّم المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل)، وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربه: مَثَل الحي والميت”.
وقد بين ابن القيم ما سبق بقول بليغ إذ قال: (أفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يُثمرُ المعرفة، ويهيج المحبة، ويُثيرُ الحياء، ويبعثُ على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا من ذلك الإثمار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرته ضعيفة).
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه كل مؤمن؛ إذ كثرت الشكوى من ضيق الأوقات وتململ القلوب وشتات النفوس والوحشة بين الرفاق والأحبة وقلت البركة والتوفيق، وما ذلك إلا عندما نبذنا نعمة الذكر فنبذتنا السكينة والمعية، فأصبحنا متقلبين بين القلق والشتات، فلا نسكن لشيء ولا تهدأ نفوسنا، فهي في اضطرابها من الصباح الى المساء.
وإن حرصنا على الذكر؛ أطل علينا غيث البركة وغشيتنا السكينة والأنس. وهذا إنما يحتاج لصبر وجهاد نفس؛ إذ قد لا يحصل الإنسان سكينة الذكر ولذته من أول مرة؛ بل يحتاج لصبر ومجاهدة في استحضار القلب والاستمرار على الذكر، ثم تأتي فتوحات الله له واحدة تلو الأخرى باستمرار المداومة.
وقد قال عز وجل: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35].
وقد قال النووي في الأذكار: (سُئل أبو عمرو بن الصّلاح عن القَدر الذي يصيرُ به العبد من الذاكرينَ الله كثيرًا والذاكرات، فقال: (إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحًا ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلًا ونهارًا، كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)).
ولله در هؤلاء ما أرفع شأنهم وما أجزل ما كتب الله لهم! فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ …. سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ”، قالوا: وما المفرِّدُون يا رسول الله؟ قال: “الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات” [رواه مسلم].
فالآن الآن اقتني كتيب الأذكار واجعله صاحبك في كل وقت ومكان، تدارسه كما تتدارس كتب العلوم الفانية واحفظه عن ظهر قلب، ردد ما فيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياك أن تفرط، وإن كسلت نفسك فردد عليها: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.