هناك تساؤلات تفرض نفسها بشدة فيما يخص تربية الأطفال، وتأثير المشاكل الزوجية على ذلك، ومن بين هذه التساؤلات:
- لماذا يجب أن لا يعرف الأطفال بالمشاكل التي تحصل بين الزوجين؟
- ولماذا تضطرب سلوكيات الطفل عند معرفته؟
- وهل يجب أن نوعيهم ببعض المشاكل؟
لأن ذلك يؤثر على الطفل بشكل سلبي ويؤثر على شخصيته وتصرفاته، فعندما يكون المنزل مليئا بالمشاكل بين الزوجين؛ سيعكر ذلك على كل أفراد المنزل صفوهم؛ لأنهم اللبنة الأساسية، ومنهم الطفل. فإذا رأى الأب في كل مشكلة يصرخ ولا يعبر عن مشاعره وانفعالاته بالشكل الصحيح؛ سيرث هذه التصرفات من أبيه، وهنا يأتي دور الأم بأن توضح لأطفالها الخطأ من الصواب. لكننا بتنا نرى أن الأم أيضاً ليست واعية كفاية لتعلم أطفالها؛ بل وأيضاً ربما ترفع صوتها فوق صوت زوجها وقت الخلاف ولا تحسن إدارة الموقف بذكاء.
وهذا كله يؤثر على أجواء المنزل؛ فيجعله كئيباً لا يرتاح فيه الأطفال ولا يشعرون بالطمأنينة، وتعبيرهم عن ذلك بأن يفضلوا الذهاب إلى بيت الجدة أو العم أو أي مكان يجدون طمأنينتهم به؛ ما عدا المنزل. فالطفل يبحث عن السكينة والراحة، وببداية تكوين شخصيته ونموها يحتاج أن يكون في بيئة سوية مطمئنة؛ لكي يكبر سوي النفس ليسَ لديه عقد نفسية تؤثر عليه.
غير أنَّ المشاكل تؤثر على الطفل في شخصيته لأنه يتطبع بطبع والديه؛ فإنها تؤثر على سلوكياته ودراسته. فقد ينخفض معدل دراسته وتركيزه لأن جل تفكيره يكون: إذا رجعت للمنزل؛ هل ستكون الأجواء كئيبة ومضطربة؟ هل ستكون أمي عابسة الوجه وأبي هاجر المنزل؟ بل هل سأرجع وأجد أمي؟
نعم، تجول في رأس الطفل هذه الأسئلة، والسؤال الأخير يحصل عندما تذهب الأم وتترك أطفالها كما يحصل في مجتمعاتنا اليوم، مع كل مشكلة بسيطة الأم تهجر بيت زوجها إلى بيت أهلها. والطفل تقلقه هذه الفكرة؛ لأنه يعتمد على أمه، فهي التي تعدّ له الطعام وتغسل له الملابس؛ إلى الأدوار التي تقوم بها الأم، فهذا جلّ تفكير الطفل، وأن ذهابها يعني ذهاب الأدوار التي تقوم بها.
فهنا يشعر بعدم الأمان ويبقى شعوره مضطرباً، وفي المقابل، هذا الشعور والقلق الذي بداخله يجعله لا يركز في دراسته، وينتج عن ذلك سلوكيات خاطئة؛ كالغضب غير المبرر، ورفع الصوت، واضطرابات النوم والتبول اللاإرادي. هذا ما عدا الخطأ الفادح التي تقع به الأمهات، بأنها تهدد أطفالها عند وقوع المشكلة بأنها ستتركهم. وسأذكر موقف يوضح تأثير ذلك بشكل كبير على الأطفال وكيف يجلب لهم الهلع والخوف.
“كانت جارتنا عندنا وقد تركت طفلتها بالمنزل والطفلة عمرها عامين، استيقظت الطفلة وصارت تبكي بشدة بشكل غير طبيعي، وبقيت تبكي حتى وهي تحتضنها أمها وتطمئنها وكان قد بدا على وجهها الخوف، سألتها عن سبب بكائها فليس طبيعي؛ لأن أختها التي تكبرها بالمنزل، فقالت خافت بأن أذهب وأتركها لأنني البارحة هددتهم بأني سأذهب وأتركهم.
ولا أدري ما ذنب الأطفال بأن يخوفوهم عند حصول مشكلة بين الزوجين؛ لأنها غالباً ما تحل؛ لكن أثرها يبقى في نفس الطفل ويبقى خائفاً مترقباً لذهاب الأم، والله المستعان”.
لماذا تضطرب سلوكيات الطفل عند معرفته؟
- السبب الأول: الطفل بطبعه يبحث عن الأمان، ومتى ما وجده فذاك موطنه الذي لا يتخلى عنه؛ إلا إذا لم يعد يجد الأمان الذي كان يجده فيه. ومصدر الأمان بالنسبة للطفل الأم، الأب، الأسرة، المنزل، فإذا كان المصدر الذي يشعره بالأمان هو نفسه مضطرب ومتزعزع؛ سيحاول هنا الطفل التعبير عن شعوره، ولأنه لا يستطيع ذلك؛ إما لقصور في تعليمه التعبير عن مشاعره بشكل صحيح، وإما أنه كطفل لا يمكنه أن يقول لوالديه أن مشاكلهم تسلب منه الأمان وتمنحه الخوف والاضطراب. فلا يجد سبيلاً لذالك؛ فيكون تعبيره على شكل سلوكيات خاطئة ناتجة عن الكتمان وعدم البوح بما يؤثّر عليه، وتعبيراته الجسدية تكون بتفضيله الجلوس وحده والأكل بمفرده، أو بالغضب والصراخ والعدوان.
- السبب الثاني: أن هذه المشاكل أثرت على نفسه حتى أصبح انطوائياً، سريع الغضب، لديه هشاشة نفسية، تفكيره مضطرب وقراراته يأخذها بتردد. فالمشاكل على الكبير تؤثر، فإذا أصابته ضائقة مادية أو تكدر في الحياة وابتُلي؛ فإن ذلك سيظهر على نفسه وسلوكه، فإذا كنا نطلب من المرأة أن تراعي غضب زوجها ببعض الأحيان لأنه مضغوط بالعمل والحياة، وإنّ ذلك قد أثر على نفسيته وسلوكه؛ فكيف بالطفل الذي لم يعتَدْ بعدُ على محن الحياة ولا يدري كيف يقوم بمقاومتها ولا كيف يدفع الحزن عنه، وكل ما يريده حياة هانئة مطمئنة مع أسرة محبة؟
هل يجب أن نوعي الأطفال ببعض المشاكل؟
الأطفال لا يجب أن يوعّوا بمشاكل الزوجين؛ لكن نوعيه ببعض الأخطاء الناشئة عن المشاكل. فالطفل يكون في مراحل نموه وبروز سمات شخصيته، وما يزال يتعلم ويأخذ من هذا وذاك، والبيئة المحيطة به تؤثر في شخصيته، وأقوى المؤثرين في بناء هذه الشخصية هم الوالدين؛ كما قال الرسول ﷺ: “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاء”. وقال الشاعر:
"يَنْشأ الصَّغِيرُ على مَا كانَ والدُهُ، إنَّ العُرُوق عليها يَنْبُتُ الشجرُ."
والطفل يتعلم مما يراه منهم، ويقلدهم في حركاته وسلوكياته، فإذا رأى الحسن أخذه وإذا رأى السيئ أخذه ما لم ينبهه عليه الأبوان؛ لأنه لا يزال في مرحلة التعلم والتقليد، وشخصيته بعدها متقلبة لم تستقر، تتكون بما يراه؛ لذا دائماً ما كانوا ينصحوننا أننا إذا أردنا أن نغير سلوكاً سلبياً بأنفسنا؛ فلنبدأ بوقت مبكر فذلك أهون علينا قبل أن نعتاده ويصبح جزءاً من شخصيتنا. وشخصية الطفل ما زالت مرنة، وعليه فإننا يجب أن نعودهم على السلوكيات الحسنة والأخلاق النبيلة، لتكون جزءاً لا يتجزء من شخصيتهم.
ولنعرف كيف نوضّح لهم الخطأ أضرب لكم مثالًا: حصلت مشكلة ما ورفع الأب يده وكاد أن يضرب امرأته، وكل ذلك يراه الأطفال، فهنا نأخذهم وبهدوء نوضح لهم أن قوة الرجل لا تكمن برفع يده على زوجته، وأن الشرع لم يبح له ذلك إلا في حالات النشوز، ومع ذلك فقد أمرنا الله سبحان بأن يكون ضرباً غير مبرح خفيفاً، وإنما هو تأديب لها فقط.
ونذكر لهم ما روي من فعل الرسول ﷺ أنّه:
“ما ضَرَبَ بيَدِه امْرأةً له قطُّ، ولا خادِمًا له قَطُّ، ولا ضَرَبَ بيَدِهِ شيئًا قَطُّ إلَّا أنْ يُجاهِدَ في سَبيلِ اللهِ”؛
[صحيح] – [رواه مسلم]
فإنّ من أهم الأمور لتقويم سلوك الطفل هو سيرة الحبيب المصطفى ﷺ بأن نحدثهم عنه وعن صفاته الخلقية؛ ليكون لهم قدوة يقتدون بها في كل أمور حياتهم.
ومن المهم أن نوضح لهم بعض المشاكل؛ لكي لا يظن الطفل أن هذه هو الصواب؛ فيكبر ويتصرف مع شريك حياته بنفس السلوك الذي رآه من والده أو رأته من والدتها. ومن المهم ألا تقلل المرأة من شأن زوجها أمام الأطفال انتقاماً منه كما تزعم؛ لأن ذلك يقلل من قدر الأب بنفس أطفاله، ولا يعود له هيبة عندهم. والطفل بحاجة لمن يشد عليه ببعض الأحيان ويقوّم سلوكه، فإذا لم يعد يهاب الأب ولا يلقي لكلامه بالاً؛ سيكبر ويتمرد ويخرج عن سيطرة والديه، وذلك بسبب الأم؛ لأنها من البداية أخلَّت في دور رُبَّان الأسرة، وأعانت ابنها على العقوق.
لذا النصيحة الموجهة للوالدين:
- الحرص على تقويم سلوكيات الوالدين أولاً، إذا أرادوا تقويم سلوك أطفالهم.
- الانتباه للتصرفات؛ فكل حركة يشاهدها الطفل تبقى بذهنه ويحاول تقليدها، والأم والأب هما المشاهَدان وهما القدوة للطفل.
- انتقاء بيئة صالحة للطفل تحيط به، فهي عامل أساسي لتتكون لديه شخصية قوية إيمانياً وسوية نفسياً.
- احترام الزوجين بعضهم البعض أمام الأبناء -ولا بد أن يحترموا بعضهما في سائر أمور حياتهم-، وتجنب إظهار البغض للطرف الآخر أو استخدام ألفاظ سيئة أمام الأطفال.
- جعل الكتاب والسنة المصدر الأساسي للرجوع له عند كل خلاف وفي كل أمورهم؛ فبهما تستقيم بوصلة حياتهم.
- إخفاء المشاكل عن الأطفال؛ فإنّ مآلات إظهارها وخيمة، فهي لا تنحصر بحاضرهم؛ بل تتعدى لتؤثر على مستقبلهم، فالطفل سيكبر ويكوّن أسرة؛ فإذا لم يتعلم الحقوق التي له والواجبات التي عليه وكيفية إدارة الحياة الزوجية، وضبط النفس وغيرها، وبقيت تصرفات ومشاكل والديه تؤثر به؛ فستعاد دوامة المشاكل نفسها ما لم يوقفها أحد. وهذا ما لا نريده؛ إذ نريد أجيالاً سوية نفسياً قوية إيمانياً تفهم غايات الزواج وأهدافه، وأننا لا ننجب ليقال أم وأب؛ بل لنربي أجيالاً راسخين بالإيمان متعبدين بالإحسان حاملين هم الأمة ساعين لرفع رايتها.
هذا وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مجلة رقمية مجانية
مجلة أسنة الضياء
يسعدنا أن نلتقي معكن بشكل دوري في مجلتكن، مجلة المرأة المسلمة “أسنة الضياء”. هنا نلتقي لنتواصى بالحق والصبر وكل ما ينفع المسلمة ويلهمها.