اختر لنفسك مشهداً

|

مرّ المشهد سريعاً.. كنت فيه موسّداً في ركن من البيت، وبعض أهلي يحدقون بي؛ لكن شغلي الشاغل كان تلك الوجوه المفزعة التي حلت ببيتي على حين غرة، واقتربت مني فزاد خوفي وفزعي.

شللٌ قد أُصيبت به أطرافي؛ فلا قدرة لي على الفرار أو الصراخ. فزعٌ يلتهم روحي ويقطع أحشائي، وملك الموت يصرخ فيّ: أيتها الروح الخبيثة، أخرجي إلى سخط من ربك! وأخذ ينتزع روحي كما ينزع سفود من صوف مبلول. عذابٌ ما بعده عذاب، تجرعته حتى آخر لحظة من فراق الروح للجسد، ثم حُمِلَت الروح المنتنة إلى السماء، ويا لهول ما لاقيت.

 انتهى المشهد. لم أقدر على إتمامه لفظاعته، وغيرت وجهتي نحو مشهد آخر..

كنت أدير رأسي يمنة ويسرة في طمأنينة وسكون. إنهم أهلي وأحبابي اجتمعوا حولي، ها أنا ذا أرى دمعاتهم، وحسراتهم، وزفراتهم، وأستشعر آلامهم؛ لكنهم كانوا يبدون بصورة ضبابية، وكأنهم في واد وأنا في واد آخر، وكأني مدبر راحل عنهم، بينما أرى بوضوح تلك الوجوه النيرة الوضيئة التي تملأ الروح سكينة وأماناً. يبدو أنهم يحملون شيئاً معهم، تفوح منه رائحة لم أر مثل طيبها في حياتي، لقد عرفتهم، كان ذلك ملك الموت ومن معه من ملائكة الرحمة.

وأدركت أني راحل لا محالة، فمر شريط حياتي بين عيني سريعاً، كانت فيه الكثير من الطاعات، وأخطاء كثيرة أيضاً؛ لكن عزائي أنني كنت منكسراً طول الوقت، بعد كل خطأ ارتكبته، منيباً إلى ربي عسى أن يخلصني من سطوة نفسي. 

وبينما أنا كذلك إذ جاءتني البشرى من تلك المخلوقات النورانية، وكأنها عرفت ما يدور في خلدي: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدّعون}.

وأشرق وجهي وانتشت روحي وزال عني همها بعد هذه البشرى. وإذ بملك الموت يلبّي أمر ربه، وأقبل عليّ يقبض روحي برفق ورحمة وهو يقول: أيتها النفس المطمئنة، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان..

 كان شعور نزع الروح مهيباً لا يمكن وصفه، والعرق يتصبب مني صبّاً، شعرت حينها بالاستسلام والخضوع التام لأمر ربي. إنه أمر لا بد منه، ولست أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر، وقد تجرع من كأس المنية وهو يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات. 

وما هي إلا لحظات حتى صرت في عداد الموتى؛ جثة هامدة، وقد كنت من قبل فلاناً ابن فلان. لقد كان يوم وفاتي مهيباً حزيناً مؤلماً لكثير من الخلق، افتقدني أهلي، افتقدني أحبابي، افتقدني من سمع عني ولم يرني، افتقدني مصلاي ومسجدي، افتقدني كل شيء. 

فكم صلوات أديتها! وكم ليال بالقرآن أحييتها! وكم نفوس جبرت كسرها! وكم صدقات أخرجتها! كم مسحت على رأس يتيم! وأزحت ألماً عن قلب حزين! كم دمعات ذرفتها لحال المسلمين المستضعفين في الأرض! وكم سعيت وبذلت لنصرة ديني وأمتي!

لقد كان الجميع يدعون لي بالرحمة والمغفرة، ويشهدون لي بأني كنت من أطيب الناس وخيرهم؛ ولكن الموت حق، ولا بد منه، ولا يسعهم إلا الصبر، ومواصلة طريق الجهاد والمجاهدة، إلى أن يجمعنا الله في فردوسه الأعلى.

أما في السماء، ويا لجلال السماء وأهلها، ويا لجمال تلك الرحلة من الأرض إلى السماء السابعة؛ أبواب تفتح، وأنفار من الملائكة سعداء فرحون بالقادم الجديد، يتحدثون عني بأجمل الأسماء والصفات وأحبها إلى قلبي. سعادة ما بعدها سعادة، ورحمة تغشاني، ويا لهيبة المشهد حين ارتقوا بي إلى أن أوصلوني إلى ربي، فقال عن روحي: ردوها إلى عبدي فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم. ومن عظم النعيم الذي استشعرته في تلك الرحلة السماوية، صرت أستعجل من يمشي في جنازتي كي يحملوها سريعاً إلى قبرها، حيث نعيم آخر ينتظرني هناك.

وأقبرني القوم ثم رحلوا وهم مطرقون يغشاهم الهمّ، كان ذلك شأنهم وأنا في شأن آخر. لم تكن أسئلة منكر ونكير عسيرة علي، فالله ربي ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وديني الإسلام، عليه حييت وعليه مت، وعليه سوف ألقى الله.

كان هذا كفيلاً بأن يجعل قبري واسعاً مستنيراً، يأتيه من روح الجنة وريحانها ما الله به عليم، لقد كان قبري روضتي ومستراحي أنام فيه كالعروس، يؤنسني قرآني وعملي الصالح المجسد شخصاً وضيئاً مشرق المحيا جميل الهيئة.

 وانتهى المشهد تاركاً في نفسي حسن ظن بالله، وشوقاً إليه، ورغبة فيما عنده، وزهداً في هذه الحياة الفانية.

فيا أيها المشتاق إلى ربك، اختر مشهداً يليق بك ترضاه لنفسك، فما زالت الروح في الجسد، وفرص النّجاة قائمة.

الموت باب وكل الناس داخلــــــــــــــــــــــــه 
يا ليت شعري بعد الموت ما الــــدار
 الدار دار نعيم إن عملت بـمــــــــــــــــــــــــــــــــا 
يرضي الإله وإن فرطت فالنـــــــــــــــــــــــــــار

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة