إن غض البصر، الرجال عن النساء والنساء عن الرجال؛ من أوامر الله تعالى، إذ قال في كتابه العزيز: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30]، ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: 31].
يقول ابن تيمية رحمه الله: (والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضه عن محل الشهوة. فالأول كغض الرجل بصره عن عورة غيره، وأما النوع الثاني من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول) [مجموع الفتاوى (15/414)].
وقد رغّب الله تبارك وتعالى في غضّ البصر؛ فقال: ﴿ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ﴾ [النور: 30]. والله عليم، خبيرٌ بنفوس من خلق، يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم، ما يؤذيهم وما ينفعهم. وغض البصر هو ترك النظر والتأمل، وكف البصر. “وغَضَّ طَرْفَه وبَصره: كفَّه وخَفَضَه وكسره” [لسان العرب (7/196)].
وفي غضّ البصر عائدات فُضلى على الفرد المسلم وعلى المجتمع المسلم. ففيه حصانةٌ للقلب والنفس، فيه صرفٌ للفتن، فيه ضبطٌ للشهوات وتهذيبًا لها، فيه صيانة للعفة والحياء، فيه خيرٌ كثيرٌ متعدٍ.
ومما يعين على غض البصر بعد الاستعانة بالله، والتزام النساء الحجاب هو البعد عن أماكن الاختلاط. وقد نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الاختلاط، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 53].
“وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ، قَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ” [رواه أبو داود رقم (484)]. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا” [رواه مسلم رقم 664].
فالاختلاط بين الجنسين مفسدة عظيمة نرى آثارها عيانًا، وأعني خصوصًا اختلاط المكث الذي يتكرر به تواجد ذات الأشخاص في ذات المكان ولساعات طويلة؛ مثل الجامعة والعمل.
ففي أماكن الاختلاط المنظَّم؛ تتكرر فرص التقاء المرء بآخر؛ لتواجدهما في نفس المكان ونفس الوقت! ولو فرضنا مثلًا أن شابًّا وقع نظره على شابّة معه في الجامعة؛ فغض بصره واستعاذ بالله ومضى، ثم في يوم آخر وقع نظره عليها؛ فشعر أنه يعرفها، وتذكّر أنها تلك من المرة الأولى. في يوم آخر حصل الأمر نفسه، هذه المرة صار يعرفها. والرابعة والخامسة، وفي السادسة صار يألفها. هو غض بصره أول مرة، وفي كل مرة كان يراها كان يغض بصره عنها ويصرف نظرة الفجاءة؛ لكنه ومع هذا صار يعرفها! ويزداد الأمر سوءًا كلما ازدادت احتمالية تلاقيهما؛ كأن يكونا في نفس التخصص ويدرسان نفس المواد.
إنّ هذا الاختلاط الحاصل في تلك الأماكن، أخرج غض البصر عن حقيقته وهدفه؛ فتوالي التصادف واللقاء في ذات المكان؛ جعل من غضّ البصر أمرًا مستحيل الحدوث، حتى ولو صرف المرء بصره عن الآخر؛ فأهداف غضّ البصر ما تحقّقت! فصار الرّجل يعرف الامرأة رغم غضّه للبصر عنها، وكذلك الامرأة رغم غضّها للبصر عن الرجل قد عرفته. ومع تأخير الزّواج وتعسيره وفراغ القلوب وتزيين الشّهوات والمدخلات الإعلامية التي تهيّج العواطف؛ ترى السهم قد أصاب القلب.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله: (فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كانوا بمنزلة اختلاط الحطب بالنار) [ الاستقامة (361/1)]. وقال ابن عثيمين رحمه الله: (إذا اختلط الرجال والنساء أصبح لا هيبة عند الرجال من النساء ولا حياء عند النساء من الرجال) [فتاوى إسلامية (93/3)].
فالحقيقة التي لا يُنكِرها إلا من يُريد التّعامي عنها هي أنّ غضّ البصر بمفهومه الحقيقيّ قد غاب في أماكن الاختلاط المنظَّم.
وكل ما سبق على افتراض أنّا نتحدّث عن مجتمع يغضّ فيه الرجال والنساء أبصارهم وتلتزم النساء فيه بالحجاب؛ فكيف بمجتمعٍ صار من ينادي فيه بغضّ البصر متخلّفًا، وأُعيد فيه تعريف غضّ البصر بالتماشي مع الأهواء والحياة الحداثيّة، وتبرّجت غالب نسائه؟
لا يغيب عن عاقل كمّ المفاسد التي جلبها الاختلاط في الجامعات والعمل، وكم من بيوت هُدِّمَت أو سُلِبَت سكينتها، وكم من عفيفة تشوهت فطرتها، وكم من مسلم فُتِنَ في دينه. لا يغيب عن امرئ انتشار العلاقات المحرّمة بشكل يُدمي القلب ويفطّره. ولا يغيب عن أحد أنّ الالتزام بغضّ البصر وغيره بات نادر الحدوث، وأنّ الرجال والنساء ألفوا هذا الحال -الاختلاط- وأحبّوه! بل وحتّى الصالحين منهم من فُتِنَ في دينه بهذا الاختلاط!
فالله المستعان على ما صرنا إليه من حال، وهو حسبنا وهادينا ومبدِّلُ حالنا ومُظهِر هذا الدّين.

مجلة رقمية مجانية
مجلة أسنة الضياء
يسعدنا أن نلتقي معكن بشكل دوري في مجلتكن، مجلة المرأة المسلمة “أسنة الضياء”. هنا نلتقي لنتواصى بالحق والصبر وكل ما ينفع المسلمة ويلهمها.