هاكَ شهادة جديدة، عفوًا، أقصد حجة جديدة! تتوالى الحجج عليكَ تباعًا، دورة شرعية من هنا، شهادة أكاديمية من هنا، سلاسل متابعة من هناك، كتب مقروءة، ثم شروح مسموعة، إجازات برواية ودراية، وغيرها.
تتوالى الحجج عليكَ وتكثر، وما رأيتك يا مسكين خشيت! ما زال قلبك طائشًا تائهًا، ما زال منكوتًا ما خشي ولا اتقى، ما زال لم يجني من ثمار العلم الذي تجمعه. تلاحق الشهادات والإجازات والمسميات، تبتغي بها تفوّقًا وسعادةً في أن يُشار إليك، أنا شاهدت وأنا تابعت وأنا قرأت وأنا وأنا. متلهّفٌ للجمع والتحصيل والتزوّد، مهملٌ لبذر ما تعلمته في قلبك لتنال ثمره!
إنّ غاية العلم ومقصده هي تقوى الله وخشيته. قال الله في محكم تنزيله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28]. فغاية العلم هي الخشية من الله وتقواه، والعلم الذي يجعل العبد يخشى الله هو العلم الذي يعرّفه بالله؛ لذا كانت العقيدة والعلم بالله من أشرف العلوم؛ لشرف المعلوم وجلاله. أما العلم الذي لا يقرّب إلى الله، ولا يُقصَد به وجه الله، فهو علم لا ينفع -حتى وإن كَثُر وكان حسنًا في ذاته-؛ بل هو حجة على صاحبه إذا علم ولم يعمل وإذا استزادَ ولم يزوِّد قلبه؛ فإنما يطلب العلم ليحسن العبد عبادته ويعبد الله على بصيرة ويتقي ربه ويخشاه، أن يهذّب نفسه، أن يتعدى أثر هذا العلم على كل حياته، يحتاج أن يحفر هذا العلم أثره في قلبه!
“إنما العلم الخَشيةُ، فإذا لم يَقُدِ العلمُ صاحبه إلى خشية الله، فيتقي عقابه بطاعته واجتناب معصيته، فلا خير في ذلك العلم. مَن أيقن بأن الله تعالى بعزته يعاقب مَن عصاه ويقهره، وبمغفرته يثيبه ويأجُره، دعاه ذلك إلى خشيته وحسن عبادته”.
وإنّما يُطلَب العلم بنية حسنة، بنية رفع الجهل عن النفس، ومعرفة الله، معرفة الواجبات والحقوق؛ لعبادة الله على بصيرة، لإتيان ما يحبّ الله وترك ما يكره، لنفع الأمة الإسلامية وحفظ الدين والدعوة إليه. وقد خرج العلم عن مقصده وغايته يوم صار يُطلب جمعًا للإجازات والشهادات، يوم صار يُجمَع طلبًا للتفوّق على الأقران والتميُّز والاشتهار، وترك طالبه الاعتناء بقلبه وتهذيب نفسه وعبادته وضبط نيّته.
من المهم أن يعي المرء قيمة العلم الشرعي وغايته، ويعرف جلال من جعل هذا العلم قربةً له؛ فلا معرفة لله بلا علم، ولا إحسان للعبادة بلا علم، ولا زكاء للنفس بلا علم، ولا خشية بحق وتقوى بحق إلا بعلم. فاعرف قيمة هذا العلم وقدره، واعرف صفة من يطلبه ويحمله، وتخلَّق بخلق حاملي العلم الشرعي. ثم اخشَ أن يسلبه الله منك لسوء تصرّفك به، واخشَ ألّا يُقبَل هذا الكثير منك لجهلٍ منك وانحراف طريق. تعوّذ بالله من هذا، وأحسِن يُحسِنُ الله إليك ويفتح عليه ويهدي بك، ولئن يهدي بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من الجمع والتكثُّر بلا أثر عليك وعلى غيرك.
واقرأ في سير حفّاظ الوحي (صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) وسير أئمتنا من أهل الحديث والأثر، اقرأ واعرف كيف كان وقع العلم عليهم وعلى قلوبهم؛ فما سبقوا إلا لنية حسنة في علمهم وعملهم وقلب متفوّق إيمانيًّا يخشى الله ويتقيه حق تقاته.
تأمّل حال خير البشر بعد الأنبياء، أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر). وقد قال ابن رجب في اللطائف: (قال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره). وقال بعض العلماء المتقدمين: (الذي وقر في صدره هو حب الله، والنصيحة لخلقه). وكان مع هذا يعتني بالعبادة وليس فقط القلب؛ لكن ما وقر في قلبه من إيمان وتصديق وامتثال لأمر الله ما كان في قلب غيره. ألا فاحرص على قلبك، ألا فاحرص على قلبك.
ومعاذ الله أن نزهّد في الإجازات والشهادات والتّّعلُّم؛ إنّما نوجّه النوايا ليتعدّى أثر هذا العلم علينا وعلى غيرنا، فما أحوجنا لمن ينقل العلم ويعلّمه محتسبًا صادقًا سليمَ صدرٍ فيفتح الله عليه ويهدي به، ويكون بذلك حجة له لا عليه. وإنّما الأمر باعتدال، بلا إفراطٍ ولا تفريط.
اللهم أخلص نوايانا لك، واجعلنا لا نبتغي إلا وجهك ورضاك، واهدنا واهدِ بنا، وتقبَّل قليلنا وبارك فيه.

مجلة رقمية مجانية
مجلة أسنة الضياء
يسعدنا أن نلتقي معكن بشكل دوري في مجلتكن، مجلة المرأة المسلمة “أسنة الضياء”. هنا نلتقي لنتواصى بالحق والصبر وكل ما ينفع المسلمة ويلهمها.