قد تكون سنوات التمكين ابتلاء واختبار أشد قوة وضراوة من سنوات الاستضعاف؛ فسنوات الاستضعاف يسهل فيها كثير من الطاعات مع انقطاع حبل الناس وضرورة التشبث بحبل الله عز وجل وحده.
أما سنوات التمكين؛ فأول خاطر قد يخطر لأغلب الناس بعدها هو أن هذه هذه هي النتيجة النهائية، وتلك هي مكافأة نهاية الخدمة، في ظن سفيه أنه قد نجح في الاختبار وبلغ نهاية السعي وما عليه إلا أن يتمتع بحلاوة النصر والتقلب في نعيم الدنيا؛ ولكن هل هناك جنة في الدنيا؟
ننسى عِظم الاختبار الذي سطره القرآن الكريم واضحاً جلياً؛ إذ قال تعالى:
{قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} الأعراف.
وقال سبحانه: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} إبراهيم.
والنتيجة في أغلب الحالات: {وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون}. وذاك الفخ المهلك، تنبه له السادة الصحابة رضوان الله عليهم؛ فهذا هو سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه لما فتحت قبرص مر بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقيل له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: (بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه).
ذاك هو الفقه والعلم، وتلك هي التقوى، لَكلمات أبي الدرداء رضي الله عنه أجدر بأن تدرس ويتواصى بها بين بني الإسلام.
سنوات الابتلاء قد تكون أخف في الامتحان، فالإنسان لا يملك شيئاً يخشى عليه ويركن إليه؛ لكنه قد حاز في التمكين ما يقعده ويخلده إلى الأرض، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الفرق في سرعة العودة والاستدراك ونفض الغفلة ونفي العلائق، فينقادون لأمر الله عز وجل مهما كانت التكلفة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} النساء.
في أحد القولين في هذه الآية الكريمة أنها نزلت في بعض المؤمنين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديداً؛ فيشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم، فأنزل الله هذه الآية. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال، والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين.
وبالطبع القول الأقوى أنها نزلت في المنافقين؛ لكن هذا قول بأنها نزلت في بعض المؤمنين يحتاج كثير تأمل وتعلم، فمسالك الشيطان زلقة خطيرة خاصة إذا كان يغذيها الهوى والنفس، وتقويها علائق الدنيا من مال وولد ومنصب وسلطة.
فالله الله في الاختبار؛ فما أشد الأخذ بعد التمكين، وما أقسى السؤال عن تلك المنحة الربانية العظيمة! ولنأخذ العبرة من بني إسرائيل؛ فما أكثر ما ضرب الله عز وجل لنا الأمثال في القرآن الكريم بهم! أفمن المعقول أن نسير على خطواتهم حذو القذة بالقذة، وقد رأينا مصيرهم في القرآن؛ بل وقد جربنا طريقهم بأنفسنا مرات فما جنينا غير الخسران؟