قد جاءكم شعبان؛ فأعدّوا لرمضان

قد جاء شعبان، ولاحت تباشير رمضان، واقتربت البطولة السنوية السماوية؛ فلا إعداد ولا استعداد، ولسان الحال {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}.

وقد رأينا جميعاً معسكرات التدريب المغلقة التي تقام للرياضيين المقبلين على بطولة هامة، والهدف هو الظفر بالبطولة أو على الأقل تحقيق نتائج مرضية فيها. ورأينا كيف يستميت الطلبة وأهاليهم من أجل التحضير لامتحان رسمي، وإعلان حالة طوارئ في البيوت للتركيز عليه، وكسب أعلى النقاط والمراكز.

 وسبحان الله! كم أتلفت الدنيا العقول، وكم ألحقت بالقلوب الفساد! أما البطولات التافهة، والمكاسب الدنيئة، والرغبات الدنيوية؛ فتشحذ لأجلها الهمم والطاقات، وتذكى نيران الشغف؛ وأما البطولة الحقيقية، والمكاسب الربانية التي ينبغي أن تفدى بالنفس والنفيس؛ لا يرى فيها إعداد أو استعداد؛ بل يترك الأمر لمحض الصدفة، وكأن الكسب مضمون. فأي معضلة هذه التي ابتلينا بها؟

 فيا أيها السابقون المسابقون، قد جاءكم شعبان فأعدّوا لرمضان، فهذا أسامة بن زيد يقول: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهرا ما تصوم من شعبان. قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم” رواه النسائي وصححه الألباني.

 فشعبان شهر يغفل الناس عنه، وما أعظم درجة العبادات، في زمن استحكمت فيه الغفلات. وشعبان شهر يسبق رمضان، وحقيق أن يقام فيه معسكر تدريبي يليق بمقام البطولة الربانية، وعظيم المكاسب الدينية وحتى الدنيوية.

أعظم ما يُستعد به لرمضان في شعبان

ومن أعظم ما يُستعد به لرمضان في شعبان عبادة الصيام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً في شعبان منه في باقي الشهور غير رمضان، لما فيه من إعداد النفس وشحذ همتها، وإيقاد روحانيتها، وإذكاء الشوق لشهر الله شهر النور والقرآن.

 ومما يستعد به كذلك، سلامة الصدور من غلها وحسدها، وأحقادها وشحنائها. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ”، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ، قَالَ: “هُوَ النَّقِيُّ التَّقِيُّ، لَا إِثمَ عليه، وَلَا بَغْي، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَد”.

ورمضان إنما هو شهر مسابقة القلوب والأرواح؛ فأنى للقلوب المثقلة بأحقادها أن تسابق! ويستعد لرمضان بالتوبة والإقلاع عن المعصية، والندم عليها والعزم على عدم العودة للذنب.

“منزلة التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد ولا يزال فيها إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما حاجته إليها في البداية كذلك”.

-ابن القيم رحمه الله

ومن أجلّ الأعمال التي تُدرّب عليها النفوس وتهيأ بها لشهر القرآن هي القرآن. فتعويد النفس على كثرة تلاوته يلين قساوة القلوب، ويذيب جليدها، ويزيل غفلتها، ويطهرها من درنها ورانها، فتستحيل إلى قلوب مخمومة شفافة، تستقر فيها معاني الآي والسور، فتزهر أرضها وتخضر. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (قال رجل لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أوصني يا أبا سعيد. قال: عليك بذكر الله، وتلاوه القرآن، فإنها روحك في السماء، وذكرك في أهل الأرض).

ويستعد لرمضان بقيام الليل، والخلوة بالله والناس نيام. ففي سكون الليل وعتمة الظلام، تجد الروح موطئاً تخلو فيه بمحبوبها، تبثه أشجانها وأحزانها، وتشكو إليه مما تلاقيه من عوائق الطريق وعلائقه، فتجد في ذلك من الأنس واللذه ما الله به عليم.

“ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم، ونهاية مطلوبهم… من لم يشاركهم في هواهم، وذوق حلاوة نجواهم، لم يدر ما الذي أبكاهم”.

-الحافظ ابن رجب رحمه الله

 ويستعد لرمضان بتعويد النفس على الصدقة والبذل لله تعالى. قال سبحانه وتعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقال ابن القيم عن الصدقة أنها (…تطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكي النفس وتنميها…) إلى آخر كلامه رحمه الله.

 وكل عمل مستحب في رمضان فهو مستحب ومطلوب في شعبان؛ لتهيئة النفس وتدريبها وإعدادها كي تنال من بركات الشهر الفضيل، وتسابق إلى منازل الصديقين، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

مضى رجب وما أحسنت فيه ... وهذا شهر شعبان المبارك

فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق واحذر بوارك

فسوف تفارق اللذات قسرا ... ويخلى الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الخطايا من تدارك

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة