الفصل الأخير من حياة امرأة تؤمن باللاشيء، وامرأة تؤمن بالله

|

على الجسر ناسٌ كُثر، قلة منهم عبروه ما رمموا منه إلا ما يكون سبباً في وصولهم للدار الأخرى، وثلة أخرى عكفت على إقامة القصور على جسر متهالكِ؛ فنسيت أو ربما ما عرفت ما معنى جسر.

لم يكُن شيب شعرها شيئاً جديداً، فقد نال البياض من قلبها وهي شابة الوجه، لا بياضَ نقاءِ وطهر؛ بل بياض الشيب وَالوَهن؛ فتضعضت روحها. ملامح وجهها تُرعب الأطفال، لقد خلقها الله في أحسن تقويم؛ لكن أعمال قلبها طفَت على ملامحها، سواد الذنوب استقرّ في عينيها.

اتّكأت بكلُها على أريكةٍ تحتضن حيوانها الأليف وتناجيه: أنت ما بقي لي في هذه الحياة، فلا الأولاد عنّي بسائلين، ولا من وهبتهم قلبي، وزهرة روحي نضرة بعبيرها وبريقها. رُكِنْتُ على رفٍ قديم في متحف، توقفت هنيهة؛ بل إن المتحف ربما يزار؛ لكنني مهملة، حتى إن متّ لن يشعر أحد بفقدي؛ إلا رائحتي الكريهة التي تزعجهم؛ فيُرسل الجيران للسلطات ليتدبروا أمر جثتي، كما حصل مع جارتي؛ لذا عليّ أن أستمتع  بهذه الجنة بقدر ما أستطيع، قبل أن يتخطفني الموت وتنتهي الحياة.

وأخرى، خيوط من النور سكنت وجهها، واستقرّت الشمس في عينيها، أخاديد سحيقة على وجهها تشهد لها أن هذه الجبهة سجدت لله كثيراً، هذه العيون المرهقة تشهد لها عند الله أنّها ما شاهدت شيئاً محرماً، عروقها البارزة في يديها تخطّ تاريخاً من إعداد الطعام لزوجها، وكيّ ملابس أطفالها، وعدّ الأذكار على أصابعها. تلك الدموع التي ما بكيت إلا من خشية الله، وحين وداع ابنها الذي استشهد على الجبهات؛ فاندفعت دموعها فرحاً لأنه حظي بالنعيم، وقهراً على نفسها لأنها لم تلحق به بعد.

قرأت وِردها ثم تنهدت قائلة: بعض الساعات من الهدوء التي يخلو  فيها البيت من ضجيج أحفادي المشاكسين؛ جعلت ختمتي تتضاعف ببركة من الله   بالأوراد والذكر.

تطالعُ كل فترة وصيتها التي كتبتها والتي وضعتها مع مبلغٍ من المال، جزء من مالها؛ لتوزيع عدد معين من  كتاب الله في مسجد الحيّ، وجزء آخر؛ لشراء كرسيّ متحرك يوضَع في أحد المستشفيات، طوَتها: اللهم اغفر لي تقصيري وثبتني؛  فأنا دون هداكَ هباء. 

تأمّلت سُترة ورديّة مُحاكة بعناية، يتداخل اللون الرماديّ بخجل، عطّرتها  باللّيلك: ستفرح ابنتي بهديتي لمولودتها الجديدة، أسأل الله أن يقرّ أعينهم بها.

قطع شرودها صوت طرق الباب؛ وإذ بحفيدتها تندفع مقبلة رأس جدتها: كنت في حلقة حفظ القرآن، وجدت نفسي قريبة منك؛ فابتَعتُ قليلاً من الكعك والحليب الطازج لتناولهم سوية، ومعي لكِ هدية من والدي، نظارة جديدة لتقرأي القرآن دون أي ألم في العيون. سأبوح لكِ بسر، أراد والدي أن يكون سباقاً بالأجر؛ كي تثقل موازين حسناته كلما قرأتِ.

مشَت الجدة باتجاه الصنبور؛ لتعبئ إبريقاً من الماء، ثم ناولته لحفيدتها لتصبّه في الأواني المُسطحة الموضوعة عند كل نافذة؛ كي تشرب منها الطيور.

اعقدي نيتك يا صغيرتي، أن تكون لك صدقة؛ فلا تدري إحدانا بأي عمل صالح تدخل الجنة، مهما صغر في نظرنا، فنحنُ نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصدقة  سقي الماء”.

إن الصباحات والليالِ التي تمر على أرض خربة ترتع فيها الخنازير في برك الطين، ويطنّ فيها الذباب، هي نفسها التي تمرّ على حقلِ سنابل في كل سنبلة مئة حبة. التراب نفسه والماء عينُها، والشمس ذاتها؛ لكن هناك من يجعلها أهلاً للملذات بكل أنواعها النتنة؛ فلا يصبر على حراثتها وبذرها بأجود البذور وسقايتها، حتى  يصل أخيراً لموسم الحصاد. وهناك من لا يأبه للمتعة العابرة؛ بل عينه تبصر الأفق البعيد، وقلبه يرقُب الوعد الإلهي، وجسده غير مبالٍ بجراحاته وشعثه؛ لأن روحه معلّقة بالعرش.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة