قديماً، كانت الأمّهات حين يرسلْن أطباقاً من الطعام للأقرباء القاطنين في القرب أو الجيران، كُنَّ يجلِّلْن الطبق برغيف خبز أحياناً، وأحايين أخر يضعون طبقاً آخر فوقه، مشدّدين علينا ألا نرفع الطبق؛ كي لا تزكم رائحة بخار الطعام الشهية أنفَ عابِر -ولو كان غنياً- فتشتهي نفسه الطعام، وكي لا يرى فقير الطبق بزينته وما فيه من دجاج وبهارات، فيرتطم طائره في جدران صدره بغية قضمة واحدة من الطعام.
وعادة إرسال أطباق الطعام لها معانٍ كثيرة لا تُقال بل تُسْتشعر، منها: طهوت اليوم طعاماً لذيذاً فوَددت لو أنكم تذوقتموه، فهاكم طبقاً يعبّر عن مكانتكم في قلوبنا، وأن لا يهنأ لنا تذوقه إلا بتذوقكم إياه، زيادة الوشائج بين الأقارب والجيران؛ فإرسال طبق يعني إرسال طبق آخر من المُرسَل إليه، وبالتالي صلة رحم دائمة لا تنقطع رغم الأشغال ولو بلقاء عابرٍ عند الباب، نوايا طيبة ساكنة في القلوب فتودّ الواحدة لو يتناوله صائم سواء كان في رمضان أو تطوّع فتنال أجر إفطار صائم.
أما في الطفولة؛ حين نرافق الآباء في السوق وتتعلق أعيننا على قطعة حلوى، فيبتاعها الوالد لنا؛ لكن يأتي المَنع بتناولها إلا حين نصل للمنزل؛ لأنه ليس من الأدب تناول الطعام في طريقِ فيه الذاهب والآيب، وليس من الشرع ولا الذوق أن تأكل وتتلذذ وطفل يرقبك متوسداً الرصيف بصمت متمنياً أن يكون مكانك.
قال رسول ﷲ ﷺ: "ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ".
في هذه الأيام، باتَ الكرم يتوارى ببطء ساحِباً أذياله. نأمل ألا نصحو يوماً لنجده قد دُفِن، والحقّ أننا ساهمنا في دفنه. فالكرم ليس مجرد عادةٍ أو صفة وحسب؛ بل هو جزء منا كمسلمين ثم كعرب. فكيف بكَ إذا تخليت عن جزء منك وما يُعرِّفُ بك؟ وكيف بكَ إذا انسلَ الخيط الأثخن من نسيجك؟
في هذه الأيام، انكشفت الأطباق وتعرّت أمام الملأ، عبر (القصة/story/الحالة). قلة هم من ما زالوا يضعون رغيف الخبز فوق أطباقهم فلا يعرضون ما كان غداؤهم اليوم، ولا تعرف ما تناولوا مع قهوتهم. أولئك اللذين حافظوا على السياج حول بيوتهم وحياتهم، تأدبوا مع الله عز وجل بالدرجة الأولى فتأدبوا مع خلقه.
إن المؤمن اليوم قابض على جمر دينه وأدبه وأخلاقه، حتى تلك التي يراها البعض تحصيل حاصل وفرعيات لا يؤبه لها؛ فلا يفلتها وإن أفلت الجميع، وذاك لبّ الثبات.
-شهد فادي