بينما أنا أتصفح جانباً من فصول أمتنا، إذ بي أرى شيئاً عجباً يلوح من بعيد؛ أرواح حلقت فتعبت لمرادها الأجساد، وذللت لأجلها السبل.
كانت تلك الصفحات التي قلبتها بيد ترتجف، وقلب وجل، مقرونة بشهر الصيام في شبه الجزيرة العربية، حيث شدة الحر والعطش وقسوة الظروف؛ إلا أن تلك الأحداث التاريخية ما زالت إلى يومنا هذا مبعث فخرنا وعزنا كلما ذكرناها. إذ كيف استطاع هؤلاء البشر أن يذللوا تلك الصعاب، ليصنعوا مجداً ونصراً تليداً بقي لنا مرجعا للبسالة والشجاعة وقوة الإيمان! أي سر استودعه الله في قلوبهم فجعل منهم قوة تركب الأهوال، وتلين الحديد؟
غزوة بدر، فتح مكة، معركة القادسية، معركة اليرموك، معركة عين جالوت…. كلها كانت في رمضان، وقد أدار فصولها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
لقد كانوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، ولم تمنعهم ظروف الصيام والجوع والعطش من الجهاد في سبيل الله وإرغام العدو. ومع ذلك فهم يحيون ليلهم بالصلاة وتلاوة آي القرآن، يناجون ربهم، ويبثونه أشجانهم، شوقا إليه ورغبة فيما عنده.
إن قوماً هذه صفاتهم لا عجب في أن تتساقط تحت ظلال سيوفهم وأسنة رماحهم أعظم الإمبراطوريات، وتتهاوى أعتى الجيوش وأكثرها عتاداً وعدداً.
أم جليل مهني
أما اليوم؛ فحال أمتنا يبعث على الشفقة، إذ يقضي كثير من المسلمين سواد ليلهم برمضان في اللهو والسهر، وبياض نهارهم في النوم والكسل؛ بل لا يحلو لهم النوم إلا في رمضان، ويتحججون في ذلك بكل عذر واه، فضاعت عليهم أشرف الأوقات؛ بل وفسدت الأخلاق والطباع.
فماذا فقدت أمتنا اليوم حتى تخلفت وصارت بهذا الحال؟
ولعل جواب ذلك هو دناءة الهمة.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تصغرن همتكم، فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم). وقال ابن القيم رحمه الله: (فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة).
وما دناءة الهمة إلا نتيجة حتمية لضعف الإيمان، وقلة معرفة بالله موجبة لقلة محبته والشوق إليه، وهل يوقد الهمم ويذكيها إلا الشوق إلى المحبوب! قال ابن القيم رحمه الله: (الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب).
ودواء الهمة الدنيئة الرباط على تلاوة القرآن بقلب حي، يرتجى منه هداية وشفاء. وقد يجد المرء ثقلاً في بادئ الأمر ابتلاءً وتمحيصاً واختباراً لصدقه، ولكن بالثبات والمداومة تأتي الفتوحات الربانية.
إن الأمور إذا أنسدت مسالكها
فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجتـه
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
فأعلوا همتكم، وانطلقوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، فشهر رمضان ليس شهر الخمول؛ بل شهر الملاحم والبذل والعطاء.