اجتمعت عصبة من النساء في مجلس يتجاذبن أطراف الحديث، وبما أنهن على عتبات شهر رمضان الفضيل، فقد كان جل حديثهن عن الإعداد والاستعداد له. وبطبيعة الحال كان أول سؤال في المجلس، مثيرٍ لكثير من اللغط واللغو والأصوات المتقاطعة هو: ماذا أعددتن لرمضان؟
تجيب إحداهن بشغف على وجهها لا يخفى: اشتريت أطباقاً أجود من أطباق رمضان الفائت، كل شيء موجود في المحل لكن الأسعار أكثر ارتفاعاً مما كانت عليه قبل شهر، لقد دفعنا مبلغاً كبيراً من أجل بضعة أغراض.
وتقاطعها أخرى: إن التجار يستغلوننا، لكن ماذا عسانا نفعل؟ الأمر محتوم علينا، فكل النساء يقتنين لهذا الشهر. لقد اقتصدت وجمعت المال منذ ثلاثة أشهر لأشتري زينة رمضان، وأواني وأغراضاً جديدة للبيت.
وهنا تقفز صاحبة البيت إلى مطبخها لتجلب ما اقتنته هي الأخرى؛ تريه للنسوة وتفتخر به.
كانت إحداهن تراقب أحاديثهن وترصد تصرفاتهن؛ يبدو أن في عقلها بعض الحكمة وحسن التدبير، فقاطعت أصواتهن المتعالية التي لا تكاد تفهم من شدته تداخلها قائلة: رمضان شهر العبادة، والإعداد يكون بالعبادة لا بالأطباق والزينة.
ردت عليها إحداهن بنبرة منزعجة: ومن قال أننا لا نعد للعبادة؟ فعندما نجدد الأطباق وبعض الأثاث، ونزين البيت بالفوانيس والزينة، فنحن نبعث طاقة إيجابية في البيت تدفعنا للعبادة.
نعم هكذا قالت وأيدها النسوة، “نبعث طاقة إيجابية في البيت تدفعنا للعبادة”.
إنها عبارة تسيل الكثير من الحبر، فمتى كانت الأطباق الجديدة والزينة كفيلة ببعث الهمة في القلوب للعبادة وحسن استغلال شرف الأوقات؟
-أم جليل مهني
ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبد الناس لله، وأشدهم حباً وقرباً له في رمضان وغير رمضان، وهو الذي كان فراشه من جلد محشو بالليف، وأوانيه قدح من خشب، وإناء من فخار، وقصعة وسقاء من جلد، ومغزل تستخدمه السيدة عائشة رضي الله عنها؟
ومثل ذلك كان حال صحابته رضوان الله عليهم، حتى الأغنياء منهم كعثمان بن عفان رضي الله عنه، فهل غابت عن بيوتهم الهمة والطاقه الإيجابية التي يتحدثون عنها الباعثة على العبادة؟
إن الإعداد الحقيقي لموسم الطاعات يكون بالطاعات، والتخفف من أثقال الذنوب والمعاصي والغفلات، حتى تجد الأرواح موطئ قدم لها في ميدان المسابقة.
وأول الإعداد تجديد النوايا وإخلاصها لله تعالى، والتوبة ورد المظالم إلى أهلها، وتطهير النفوس من الشحناء والأحقاد والحسد والقطيعة، والألسن من الغيبة والنميمة، والجوارح من السعي في مسالك البغي والظلم للنفس والعباد.
يكون الإعداد بصيام تطوع يزكي الأنفس ويهيئها لشهر الصيام، وبقيام الليل والناس نيام، بذكر لله يملأ القلوب، وتلاوة للقرآن تفيض على البيوت حياة ونوراً لا ينقضي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت” رواه مسلم.
فالبيوت العامرة بالذكر وطاعة الله بيوت مليئة بالحياة بقدر ذاك، وإن كانت أكواخاً هشة أو خياماً مهترئة، والبيوت التي خلت من ذكر الله بيوت ميتة لا حياة فيها بقدر خلوها من ذاك، وإن كانت في ظاهرها قصوراً شامخة تحوي أفخم الأثاث.
وبعد أن تتم التهيئة الحقيقية لشهر القرآن فلا بأس بعدها ببعض التجديد في مظهر البيت بلا إسراف أو تكلف؛ بل بما هو متاح فرحاً بهذه الشعيرة العظيمة، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}.