في كل مرة أمر بهذه الآيات الكريمة؛ لا يسعني إلا الوقوف عندها وتأملها كثيراً، وتأمل الامتثال الصادق اللحظي لأمر الله عز وجل.
قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47)} هود.
شعور الأبوة والأمومة هو أعلى وأمتن شعور إنساني في ظني، ولا يمكن تجاوزه بسهولة أبداً، ويحب أحدنا ابنه أكثر من نفسه ومن الدنيا وما فيها، ولا يعز عليه أن يفتديه حتى بروحه ونفسه.
لذلك كان امتثال سيدنا نوح عليه السلام اللحظي في هذه الآية من أعظم الاستجابات التي قد يصادفها الإنسان. فذاك ابنه الذي هلك على الكفر وهو عليه مشفق من العذاب الشديد الذي لا حد له، فأراد أن يتوسل لله عز وجل بألا يهلكه. وذلك كما جاء عند بعض أهل التفسير أن الله عز وجل وعد سيدنا نوح أن ينجيه وأهله، فدعى الله عز وجل أن ابنه من أهله وأنه عز وجل أهل الوفاء بالوعد.
فكانت الآيات السابقة هي إجابة الله عز وجل عليه، ثم استجابة سيدنا نوح المذهلة وامتثاله أوامر الله عز وجل، فلم يتذرع بحجة عاطفة الأبوة أو المشاعر التي لا يمكن السيطرة عليها، ولم ير أن الله عز وجل قد ظلمه أو ظلم ابنه، ولم يشعر بأن له استحقاق عند الله عز وجل بأنه قد تحمل كثيراً لأجل الدعوة لتوحيد الله عز وجل والإيمان به، لم يحدث أياً من ذلك، فذاك أحد خمسة من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
نفس الأمر حدث مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين وفاة عمه أبي طالب، فقد أراد أن يستغفر له لعل الله عز وجل يخفف عنه العذاب أو يغفر له؛ لكن الله عز وجل نهاه عن ذلك كما في الآية الكريمة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} التوبة.
على الرغم من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب وعلى الرغم من جهد أبي طالب في حماية النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم امتثل لحظياً لأمر الله عز وجل بلا مواربة أو تبرم أو التفاف.
قد تقول: لكن هؤلاء أنبياء يمكنهم فعل ما لا يستطع الإنسان العادي فعله!
وعلى الرغم من فساد الحجة؛ لكن دعني أسوق لك هذه القصة كما في صحيح مسلم:
“لَمَّا نَزَلَتْ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ {لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللَّهُ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قالَ: فاشْتَدَّ ذلكَ علَى أصْحابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأتَوْا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا علَى الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ، الصَّلاةَ والصِّيامَ والْجِهادَ والصَّدَقَةَ، وقدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِه الآيَةُ ولا نُطِيقُها، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولوا كما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَها القَوْمُ، ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهُمْ، فأنْزَلَ اللَّهُ في إثْرِها: {آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالَى، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} [البقرة: 286] قالَ: نَعَمْ {رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا} قالَ: نَعَمْ {رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ} قالَ: نَعَمْ {واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا علَى القَوْمِ الكافِرِينَ} قالَ: نَعَمْ”.
فهؤلاء هم الصحابة؛ رغم أنهم ظنوا أن أمر الوسوسة والأفكار قد لا يملكوها أحياناً؛ إلا أنهم امتثلوا في ذات اللحظة التي أمرهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقولوا سمعنا وأطعنا! فخفف الله عز وجل عنهم وعنا من بعدهم بفضل ذاك الامتثال الصادق، وكانت عاقبة أمرهم خيراً.
ذاك هو الامتثال الحقيقي لأوامر الله عز وجل، دون جدال ولا فلسفة ولا سفسطة؛ بتلك البساطة وبذاك الوضوح. ذاك هو الامتثال الذي يعبر حقيقة عن محبة الله عز وجل وتعظيمه، والذي يستوجب أيضاً محبة الله عز وجل ولايته وتوفيقه لعباده.
-سنا برق