الكاتم لما أنزل الله من الآيات والبينات، المستوجب للّعن من الله ومن الخلائق أجمع، إن تاب وأصلح؛ يتوب الله عليه فهو التواب الرحيم سبحانه. ولا مكان للتردد في التخلية والتوبة.
﴿إِنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللّاعِنونَ إِلَّا الَّذينَ تابوا وَأَصلَحوا وَبَيَّنوا فَأُولئِكَ أَتوبُ عَلَيهِم وَأَنَا التَّوّابُ الرَّحيمُ﴾ [البقرة: ١٥٩-١٦٠].
الكافر بعد إيمانٍ وعلم وشهادة للحق، المستوجب للّعن من الله والملائكة والناس أجمعين، إن تاب وأصلح؛ يتوب الله عليه فهو الغفور الرحيم سبحانه.
﴿كَيفَ يَهدِي اللَّهُ قَومًا كَفَروا بَعدَ إيمانِهِم وَشَهِدوا أَنَّ الرَّسولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ البَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ أُولئِكَ جَزاؤُهُم أَنَّ عَلَيهِم لَعنَةَ اللَّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجمَعينَ خالِدينَ فيها لا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذابُ وَلا هُم يُنظَرونَ إِلَّا الَّذينَ تابوا مِن بَعدِ ذلِكَ وَأَصلَحوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [آل عمران: ٨٦-٨٩].
المنافق الذي شارك الكفار بذات العقيدة، مضيفًا عليها الخداع والمكر، المستوجب للخلود في الدرك الأسفل من النّار، إن تاب وأصلح؛ يتوب الله عليه.
﴿إِنَّ المُنافِقينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصيرًا إِلَّا الَّذينَ تابوا وَأَصلَحوا وَاعتَصَموا بِاللَّهِ وَأَخلَصوا دينَهُم لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ المُؤمِنينَ وَسَوفَ يُؤتِ اللَّهُ المُؤمِنينَ أَجرًا عَظيمًا﴾ [النساء: ١٤٥-١٤٦].
المحارب لله ورسوله الذي يعيث في الأرض فسادًا؛ بقتل الناس وسرقة أموالهم وبثّ الرعب في قلوبهم، المستوجب للقتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، إن تاب إلى الله قبل القدرة عليه؛ يتوب الله عليه!
﴿إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَيَسعَونَ فِي الأَرضِ فَسادًا أَن يُقَتَّلوا أَو يُصَلَّبوا أَو تُقَطَّعَ أَيديهِم وَأَرجُلُهُم مِن خِلافٍ أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ ذلِكَ لَهُم خِزيٌ فِي الدُّنيا وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ إِلَّا الَّذينَ تابوا مِن قَبلِ أَن تَقدِروا عَلَيهِم فَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣-٣٤].
السّارق الذي يسلب أموال النّاس وممتلكاتهم وأثمن أشيائهم بغير حقّ، إن تاب وأصلح؛ يتوب الله عليه.
﴿وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقطَعوا أَيدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ فَمَن تابَ مِن بَعدِ ظُلمِهِ وَأَصلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتوبُ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [المائدة: ٣٨-٣٩].
إن كان الله تعالى يغفر لكلّ هؤلاء على كِبَر جُرمهم وعِظَم اقترافات أيديهم؛ أفلا يغفر لك؟ حتى وإن كنتَ قد فعلتَ ما فعلوا؛ لمَ لا يغفرُ لك؟ إنّ الغفور الرّحيم الذي غفر لهؤلاء عن كمال عزّة وحكمة؛ يغفر لك ويتوب عليك كما تاب عليهم؛ فقط أقبِل وأقدِم، تُب وأصلِح، اقتَرِب واصدُق، اعزِم واهجُر.
والمُتأمّل في الآيات السّابقة، يجد التّوبة مقرونة بالإصلاح، وهذا جليٌّ في كثير من آيات القرآن، فلا يكفي من المسيء الكفّ عن إساءته، بل يُتوقّع منه إصلاح ما أفسده وما سبّبه من أذى؛ إن كان هو صادقًا بندمه وإقلاعه عمّا أحدَث.
قال ابن عاشور رحمه الله: (ومعنى (أَصْلَحَ) صيِّر نفسه صالحةً، أو أصلح عمله بعد أن أساء). وقال ابن منظور رحمه الله: (الإصلاح نقيض الإفساد وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه).
وإنَ النّفس إن لم تشغلها بالحقّ شغلتك بالباطل، فكان من بديع اهتمام الخطاب القرآني بالإصلاح بعد الكفّ عن الأذى؛ أنّ المبتعِد الهاجر لما اعتاد عليه، يجد في قلبه فراغًا وخواءً يُخشى عليه أن يستهويه لرَدمِه؛ بالعودة لما كان عليه، فجاء الاهتمام البالغ بالإصلاح بعد التّوبة؛ ليسدّ التائب ذلك الفراغ بإشغال النّفس بالخير والصّلاح والمنفعة، فيكون ذلك أدعى وأَرسخ لدعائِم الثّبات على التّوبة.
سيحاول الشيطان صدّك بقوّة عن العودة، وسيسعى بأقصى جهده ليملأ روحك قنوطًا ويأسًا، تذكّر عندها قوله تعالى، وردّده بصوتٍ تسمعه أذناك: ﴿قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾.
إنّ رمضان قريبٌ مُقبِلٌ، وطَيفُه قد أَخَذ يطرقُ قلوبِ المتشوّقينَ له؛ المتلهّفين لإحياء ما جفّ وقَسِيَ من أرواحهم؛ التي طال بُعدها عن ينابيع النفحات الإيمانيّة، والسّكينة القلبيّة التي يغمر بها هذا الشهر مَن بذَل وسعَى وأصلَح…
الروحاء
فبادِر وأقبِل وَتُب إلى الله، واعقِد العَزمَ على أن يكون رمضانكَ هذا خيرًا ممّا سبق، بالزّيادة على ما كنت تفعله، وبفعل ما لم تفعله مُسبَقًا من الخيرات، متعاهدًا حال قلبك وخضوعه للباري عزّ وجلّ، مقبِلًا عليه سبحانه وحال لسانك: {وَعَجِلتُ إلَيكَ رَبِّ لِتَرضى}، فإنّك إن صدَقت وأقدمتَ مُجِهّزًا عدّتك وعتادك من شعبان؛ ستنال من الفتوحات والخيرات في يوم المعركة، ما لن يناله من بدأ بتجيهز نفسه عند رؤية الرّكب قد انطلق بزاده إلى أرض المعركة.
فإنّ ذاك اليوم إن أتى لن ينتظر أحدًا، ولن يؤخّر مُكثًا؛ بل سيمرّ مرورًا سريعًا خاطفًا كما في كلّ مرة، فاسعى جاهدًا أن تكتب فيه من الفائزين، وأن يكون اسمك مع قوافل المعتوقين من خلودٍ أليم.