ها قد لاحَ في الأفق طيفُ ضيفٍ مرتَقَب، وقد سارعَ المُحِبّون لحسن استقباله؛ بتجهيز المقام وإصلاح المكان. فبعدما يفرُغ المستقبلون من التّخلية بإزالة الشوائب والأوساخ؛ يبدأون التحلية، تحلية المكان بالرّوائح الطيّبة والزّينة الأنيقة، حيثُ لا استغناء للثانية عن الأولى بل ولا تصحّ بدونها.
قد صرنا على موعدٍ مع شهرٍ استثنائيٍّ من شهور السّنة، إنّه شهرٌ تُصَفّدُ فيه الشّياطين فلا يبقى لها على إنسانٍ سلطان؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ من رمَضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومَردةُ الجِنِّ وغلِّقت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ”.
إنّهُ شهرٌ تُكفَّر فيه السيّئات والذّنوب؛ فتعود الصّفحات للونها الأبيض النّاصع، وينقّى القلب من النكتات السوداء، وتُعتق الرّوح من أغلال المعصية، فتحلّق كطائرٍ أبصر النّور بعدَ مكثٍ دامَ لعقود في قفصٍ مُظلِم، قال صلى اللهُ عليه وسلم: “مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ”.
هو شهرٌ تُضاعف فيه الحسنات والأجور. لقد كانت الأمم السابقة تعمّر لمئات القرون، وكان الصالحون منهم ينتهزون كل تلك السنين في العبادة والطاعة والتقرّب إلى الله، فكيف بنا نعيش أقل بمئات السنين من نِصف تلك المدّة… أنّى لنا بمثل حسناتهم وطاعاتهم، وأنّى لنا بمسابقتهم لأعالي الجِنان؟
فكان من رحمة الله تعالى بنا أنْ شرعَ لنا مواسم الطاعات التي تضاعف فيها الحسنات، وشرع لنا من الأعمال ما يكون الجزاءُ عليها بالمئات، وشرع لنا الثواب على تعدّد النّيات واحتساب الأجور في الأعمال العاديّة، والله جوادٌ كريم يضاعف لمن يشاء سبحانه.
هو شهرٌ أوجدَ الله فيه ليلةً هي أعظم ليالي الدّهر، والعمل فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر سواها.
تخيّل أن يأتيكَ رئيس عملك قائلا: اليوم سأضاعفُ لك الأجرةَ على كل عملٍ تقوم به؛ بألف مرة عن اليوم العادي، كيف سيكون حالك؟ وما الذي ستتركه من الأعمال مبتورًا؟ وهل ستدع ثانية من ذلك اليوم تفوتك؟ بل والله إنّك لتجتهد وتكدّ وتتعب مواسيًا نفسك بأنّها ساعات معدودة وفرصة لا تعوّض. ولله المثل الأعلى سبحانه فقد أغدقَ علينا بهذه الفضائل والنّعم؛ أفلا نكون شكورين بحُسن انتهازها واستغلالها؟
هو شهرٌ يختار الله فيه مِن عباده مَن تُكتب أسمائهم في سجلّات النّاجين من عذاب الحريق، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ للهِ تبارك و تعالى عُتقاءَ في كلِّ يومٍ و ليلةٍ”. أتدع ذلك يفوتك ثلاثينَ مرّة!
لا بدّ للمسلم أن يبذل جهده لحسن العمل في هذه الأيام القلائل، إنّها ثلاثون يومًا فقط كفيلة لتغيير مصيره الأبديّ… هي أيّام معدودة قد تفتح له -إن أصلح فيها وسعى- توفيقًا إلهيًّا لا ينفد، وثباتًا على الطاعات والخيرات، وتغييرًا من حال إلى حال، وتحرّرًا من قيود الدّنيا والتعلّق بزخرفها الزّائل؛ إلى التطلّع والتشوّق إلى نعيم الآخرة؛ ليصبح لسان حال العبد يلهج: (لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة).
ثمّ إنّه وإن وقَر في قلب العبد شوقٌ لاغتنام هذا الشّهر بعد سماع فضائله، ووجد في نفسِه عزيمة للإصلاح فيه مهما كان عليه سابقًا، فليبادر لذلك مهرولًا بكُلِّ ما فيه؛ فما يزال الشّيطان يثبّط العبد وينقض من عزيمته شيئًا فشيئًا؛ إن اشتمّ رائحة قصدٍ لطاعة ورغبةٍ في إصلاح.
ولا وقت أنسب من “فورًا” في السّير إلى الله، فليبدأ كلٌّ منّا بتهيئة روحه وقلبه لرمضان من شعبان، عوضًا عن الانشغال الكلّي عن ذلك بالمونة والتّزيين.
“لما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان، شُرع فيه ما يُشرَع في رمضان، من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقّي رمضان، وترتاض النّفوس بذلك على طاعة الرّحمن.
-الحافظ ابن رجب رحمه الله
وأوّل ما يبدأ العبد به تهيّؤه: الاستغفار الكثير المتواصل؛ فإنّ الخطايا تكبّل الرّوح، وتقسي القلب، وتردع صاحبها عن الإقبال إلى الطّاعة والتلذّذ فيها، فعلاج كلّ ذا بالتوبة إلى الله والاستغفار؛ لاجتثاث كلّ ما يحول بيننا وبين توفيق المولى، والإقبال على الطاعات ثمّ الثّبات عليها.
وطلب المعونة والتّوفيق من الله أمر مِفصلي إذ لا قدرة للعبد على تحريك إصبع دون معونته سبحانه، فليقبل العبد على مولاه مقرًّا بضعفه وافتقاره إليه جلّ وعلا، سائلًا إيّاه الهداية والتّوفيق والعون، فإنّه إن حازها؛ وجد من نفسه إقبالا على الطاعات يُساقُ لها سوقًا، وفُتح له من الفتوحات ما سكن لها صدره، ورأى من ألطاف الله ما قرّت لها عينه.
ومن أمثلة الطّلب: تعاهد الوصيّة النبويّة والمحافظة عليها؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: “يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ”.
بعد ذلك، لا بدّ أن تكون للمرء خطّة واضحة مكتوبة يسير عليها، ولا يترك نفسه للتحصيل الحاصل؛ فيضيّع الفُرَص وتفوته مراتب السَّبق. فليدوّن العبد على ورقة؛ قائمة بالأعمال الصّالحة تمتدّ على يومه بأكمله، لا يترك فيها ثغرة للغفلة والخسران، وفي شرعنا الحنيف أعمال يسيرة بأجور فاضلة عظيمة، فليبحث عنها المُجِدّ وليحرص على المحافظة عليها.
وحريّ بنا بعد كلّ ما سبق، التطرّق إلى أهمّ ما وُصف وعُرف به هذا الشّهر الفضيل -شهر القرآن- على العبد السّعي للتمسّك بالقرآن بقوّة، بدءًا من التضرّع لله صادقًا بأن يجعل القرآن سقاءَ روحه وسكينته، وبأن يحيي الله به قلبَه، فليقبل العبد بكيانه كلّه على القرآن تاليًا ومتعاهدًا ومتدبِّرًا.
انطلاقًا من شعبان؛ مخصّصًا وقتًا ثابتًا أو صفحات محدّدة هادفًا لختمة بل ولختمات إن كان ذلك في وسعه، مقرِنًا ذلك بختمة تفسير ميسّر؛ أو مُسبِقًا تلاوة كلّ سورة بمعرفة خصائصها وموضوعها وفضائلها؛ ومن أفضل ما جمع ذلك كلّه كتاب «بطاقات التعريف بسور المصحف الشريف»، حتى لا يُقرأ القرآن قراءة مجرّدة لا خشوع فيها ولا وجل.
حيث ذمّ الله تعالى طائفة من بني إسرائيل لم يمكن لهم حظّ من التوراة إلا التلاوة فقط (إلا أمانيّ) قال تعالى: ﴿وَمِنهُم أُمِّيّونَ لا يَعلَمونَ الكِتابَ إِلّا أَمانِيَّ وَإِن هُم إِلّا يَظُنّونَ﴾، بل على المرء أن يفتح قلبه قبل فمه في التلاوة متفاعلًا مع الآيات؛ حتى إذا مرّ بآية عذاب خاف وتعوّذ، وإذا مرّ بآية رحمة وثواب تاقَ ودعا، وإذا مرّ بآية تسبيح تأمّل وسبّح، تأسّيًا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ البقرة فما مر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استعاذ). كما وقال عبدالله بن مسعود -أول صادح بالقرآن جهرًا- رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فارعها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه).
وممّا يعين ويساعد على إخصاب تربة القلب؛ لتسنح لمعاني القرآن وهداياته أن تنمو وتزدهر فتؤتي أُكُلَها: القراءة في أسباب نزول القرآن. ممّا ساعد في إثمار آيات القرآن في حياة الصحابة، حتى كان حرصهم على العمل بما فيه أشدّ منه لحفظهم كلماته -بالإضافة لنقاء قلوبهم وطهارتها- معرفتهم فيما نزلت الآيات ومناسبتها؛ إذ يساهم معرفة سبب النّزول في العيش في كنف الآيات والأحداث التي تشير لوقوعها؛ بإعمال الفِكر والتدبّر، فيقع أثر الآية في النّفس على غير ما لو قرأت دون معرفة الحدث خلفها.
ومن الكتب النّافعة الحريصة على صحّة الأسانيد في هذا الباب، كتاب «الصحيح المُسند من أسباب النّزول للوادعي»، ولا بأس باصطحابه حتّى رمضان؛ فيكون ممّا تُشغل به الساعات وتزوّد به النّفوس وتُزكّى.
فليكن همّك في شعبان أن ترِي الله منك صدقًا؛ بإقبالٍ على خيرات لم تكن تفعلها، وبإرغام على أعمال شقّت على النّفس في بدايتها، وبإكثار من نوافل وقُربات لم تُعهد منك قبل؛ رجاءَ أن يفتحَ الله على قلبك وروحك وبدنك في رمضان فتحًا مُبينًا، تقرّ له عينك، وينشرح له صدرك، وتستلذّ به أركانك، وتذوق به حلاوة الطاعة وجنّة القرب من الرّحمن. والجوادُ جلّ في علاه أكرمُ من أن يردّ ساعيًا متحبِّبًا.
-الروحاء