كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح رحمهم الله يواصلون رمضان برمضان؛ فبعد أن ينقضي الشهر الكريم؛ تظل أفئدتهم وألسنتهم تلهج بالدعاء بالقبول؛ أن يقبل الله منهم رمضانهم. حتى إذا انتصفت المدة بين الرمضانين؛ تاقت قلوبهم وأنفسهم لرمضان القادم، فتلهج أفئدتهم وقلوبهم ببلوغه!
ذاك رباط الصادقين، رمضان غير منفك عن القلوب، فلا يكن مجرد شهر عابر، ينقطع البر بانقضائه؛ بل هو حالة قلبية ممتدة طوال العام، وإن كان هو في ذاته محطة عامرة لشحذ القلوب بالإيمان والجوارح بالأعمال. فإن كان انتظار الصلاة بعد الصلاة رباط؛ أفلا يكون انتظار رمضان بعد رمضان رباط؟
-سنا برق
قال معلى بن الفضل: (كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم). وقال يحيى بن أبي كثير: (كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا).
لم يكن رمضانهم مجرد لحظات تأثر عابرة، حتى إذا انقضى عاد حالهم إلى ما كان عليه وربما أردى. بل كان جنة مزدانة تعلق فيه الروح والنفس، فتنتظره بصدق وجد وإخلاص من العام للعام.
أولئك أقوام علموا قدر رمضان بصدق، تذوقوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: (أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله؛ هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض).
ومن أعجب ما نعايشه في زماننا، أن بيننا أقوام واصلوا رمضان جداً واجتهاداً وعملاً، وقد علموا قدره وأثره وعظم مقامه، فواصلوا الليل بالنهار ليدركوه وقد تجهزوا بكل ما يستطيعون. ولكن وياللعجب ليس بهدف اغتنامه للقرب من الله عز وجل ورفعة الدرجات في الجنة؛ وإنما لصد الناس عنه، وإشغالهم فيه بكل ما يفسدهم ويفسده عليهم.
اختاروا أن يكونوا أولياء للشيطان، فبذلوا كل ما يستطيعوه لصد الناس عنه وعن اغتنامه وعن نفحاته، فبذلوا الأوقات والأموال، وضحوا بالراحة ليصلوا رمضان برمضان بكل معاني الفحش والمعاصي والذنوب. فما أن ينتهي رمضان الذي قدموا فيه برامجهم ومسلسلاتهم الهابطة؛ إلا ويبدأوا في الإعداد لرمضان التالي بأشد منها فحشاً وبذاءة وفجور.
جلد في الباطل، مع سعي حثيث خلف بعض المكاسب الدنيوية ببيع أنفسهم وأعمارهم للشيطان، فينصبوا الفخاخ للمسلمين؛ ليسقط جلهم فيها في أعظم شهر في العام، فبدلاً من أن يسعى المسلم في شهره لفكاك رقبته من النار، يقع في ذاك الفخ الذي لا يحاول فكاكاً منه في الدنيا؛ بل يسعى له بقدميه، ويسقط فيه راضياً مختاراً.
وكلما تفكرت أنه قد تأتينا فرصة للعتق من النار، من جهنم، ذاك الجحيم المستعر، العذاب الذي ما بعده عذاب ولا يدانيه عذاب، نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر، حديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
- أما الأول فقد رواه الترمذي في سننه: قال صلى الله عليه وسلم: “لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه”.
- وأما الثاني فقد رواه مسلم في صحيحه: قال صلى الله عليه وسلم: “إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً”.
والقرآن الكريم مليء بوصف النار وعذابها، نسأل الله العافية. فكيف بمن تأتيه فرصة للعتق منها، ثم يرفضها ويدير ظهره لها، في سبيل شهوة ساعة أو ساعات أمام تلك البرامج والمسلسلات؟ شهوة عابرة منقضية لا تعود بأي نوع من أنواع الإفادة على الإنسان، ولا حتى مكسب دنيوي واحد؛ بل خسارة الدنيا والآخرة! فأي عقل ذاك الذي يحمله إنسان، أضاع رمضانه أمام التلفاز؟
أيها المسلم، لعله آخر رمضان لك، ولا تدري أتأتيك تلك الفرصة للعتق من النار ثانية أم لا! بقي القليل ويحل علينا الشهر الكريم ضيفاً، وقد رفع أهل الضلال استعدادهم لأقصى درجة؛ ليفسدوا عليك شهرك؛ فلا تبلغهم مرادهم منك، واستعذ بالله من جلد الفاجر وعجز الثقة!