اللهم وسري لك مكشوف

|

استوحشت منا أنفسنا، ضاقت صدورنا حتى لكأنا نتنفس من ضيق إبرة، منا من طفق يبكي لينفس عن حر قلبه، ومنا من قسى قلبه؛ يطلب الدمع فلا يجده، هذا حال كثير من البشر اليوم؛ فما الخبر؟ الذنوب. نعم، الذنوب.

هذا القلب خلق ليعبد الله، وركنا العبادة كمال الخضوع مع كمال الحبّ، فإن أنت خضعت واستلمت وانقدت لغيره؛ أي اتبعت هواك بنفس ذليلة محتجة بالضعف البشري والفتن المحيطة، ورافقه انشغال القلب بغير ما خلق له بصور ومحبة خلق ودنيا دنية؛ اصدقني هل ستأنس؟ بم سيشرح صدرك؟

وإني أحكي لك حكاية عليل مريض تائه القلب، والمريض بالمريض أشبه وأدرى بحرّ قلبه، إن ما أصابنا ذنوب كسرتنا، وقلب ملأناه بغير الطاعة والمحبة؛ ففر منا، وعينك أستدمع بعد هذا من خشيته؟

كل قلب بما فيه ينضح، قلبك سيفيض بواردات حسك، بصرك وسمعك وحركتك. فاتحه ببصرك نحو كتاب الله وسنة نبيه، وعلم التوحيد وأسماء الله وصفاته. ويمم بأذنك سماع الخير، ولا تمش لحرام؛ بل إن استطعت تقليل الفضول من المشي وسائر الأعمال؛ فافعل؛ فعن السلف أن كثرة الفضول تقسي القلب.

فإن سأل سائل: طيب، ولكن هل الذنوب تفعل هذا الفعل كله؟ علّي حزين على فراق، أو فجأة بلاء، أو دين وفقر ما فيه من مناص.

اعلم -فرج الله كربك وشرح صدرك وقر عينك- أن من صلب الإيمان الإيمان بالربوبية؛ أي أن الله رب الأرض والسماوات، مدبرها والمتصرف فيها، فما من قدر إلا لخير وحكمة، وما أخذ شيئاً إلا هو حقه وملكه؛ أتراك تغضب لو أخذ جارك ماعوناً كنت اسعترته منه؟ ولربي المثل الأعلى، وما يأخذ شيئاً إلا يعطيك عوضه وقبله وبعده الأشياء، تأمل صحتك، بيتك ولقمتك، إسلامك إسلامك! والله تعدل الأرض بخيراتها.

نعم، احزن وابكِ؛ فأنت إنسان بمشاعر وعواطف، هذا اسمه حزن وما هو إلا مشاعر إنسانية إثر حادثة كونية؛ ولكن تيقّن أن الوحشة وضيق الصدر وهذا الشعور الدائم الحضور، الذي إن غاب أحياناً يعود فور ابتعادك عن الله؛ فهو إنما من الذنوب إي والله، والذنوب كالسموم للروح، الروح قوتها معرفة الله والتعبد له وفق أسمائه وصفاته؛ كما أن قوت الجسد الطعام والشراب.

فإن قيل: نشعر أن من يشعر بهذا من الصالحين أكثر من الفساق فهل ثمّ تفسير؟
نعم يا نور العين، يكثر لدى الصالحين؛ لأنهم ذاقوا حلاوة القرب الإلهيّ. يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن ذوق مثاقيل الذر من حلاوة الإيمان لا تعادل لذات الدنيا بأسرها).

ودليله: كم من فقير غني الروح سعيد؛ بل انظر حال العلماء وقادة الجهاد، ليسوا في غنى وأموال؛ بل اللهم لديهم قوت يومهم. وانظر كم من فقيد مطمئن الإيمان -انظر مثلاً حالة الدكتور إياد قنيبي بعد موت قرة عينه ومؤنسة دربه ابنته سارة-.

وإليك نصاً من ابن القيم طبيب القلوب رحمه الله: (إن في القلب شعث: لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة: لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة: لا يسدها الا محبته ودوام ذكره والاخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا)!

تالله إني لمشفق على كل مسلم، من أن تنقضي دنياه ولم يدرك بعد لم خلق، أو درى دون فقه أي عمل بالعلم. فارع هذه الأمانه رعايتها، وآتها حقها، فغداً هي عنك ناطقة، ولأحوالك فاضحة، وغداً هي جنات ودرجات ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت! ولا أذن سمعت! ولا خطر على بال بشر! فيها حور حسان، فيها الذهب والفضة، فيها جزاء من صبر ولمن عينه عن المحرمات غضت ولمن جاهد في أرض الإسلام ولم يتنازل ويستسلم بالسفر بحثاً عن جمال أرض فانية ظاهرها فاتن وباطنها قلب في ثقب إبرة؛ أفتبيعها بشيء من الدنيا، بدولارات أو ريالات أو منصب أو شهوة؟

وتأمل الحديث في الصحيحين عن شعبة: “يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي”.

هذا السر معروف، مكشوف بينك وبين الله ربك وخالقك. فلنلجأ له وننطرح بين يديه ونقول: اللهم وسري لك مكشوف، قلها ثم ابك.. وأنا إليك ملهوف..

كيف أحقق هذا المعنى حقيقة بحيث يكون الله أحب إلي من أيّ شيء؟ كيف تكون الصلاة قرة عين؟ وماذا قصد ابن القيم في قوله: (فإن ذوق مثاقيل الذر من حلاوة الإيمان لا تعادل لذات الدنيا بأسرها)؟ تأمل وابحث، وآتيك عن بيانها قريباً باسم الله القريب الرحيم.

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة