عندما نقرأ القرآن الكريم بقلب حي لم تعكر صفوه الغفلات؛ فإنه سيبحر بالروح في المعاني الإيمانية، ويرتقي بها في مقامات العارفين بالله، المتنعمين بقربه ومحبته والشوق إليه، السائرين بين خوف ورجاء، الطامعين في رحمة خالقهم التي وسعت كل شيء، والخائفين الوجلين المشفقين من عذابه وغضبه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عن عبد الله بن مسعود قال: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ علي”، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: “نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري”، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، قال: “حسبك الآن” فإذا عيناه تذرفان).
جاء في تفسير السعدي رحمه الله: (ثم قال تعالى {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} أي كيف تكون تلك الأحوال؟ وكيف يكون ذلك الحكم العظيم الذي جمع أن من حَكَمَ به كاملُ العلم، كاملُ العدل، كاملُ الحكمة، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم، مع إقرار المحكوم عليهم؟
فهذا والله الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها، وهناك يبقى المحكوم عليهم مُقرِّين له لكمال الفضل والعدل والحمد والثناء، وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعزم والنجاح، ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين) انتهى كلامه رحمه الله.
حق لمن قرأ هذه الآية من المؤمنين أن ينخلع قلبه، ويسكب الدمع ويبكي على حاله، وهو لا يدري إلى أين؛ أإلى جنة أم إلى نار، وليس بحوزته خبر يقين بأن الله قد قبل منه عملاً واحداً من الأعمال الصالحة التي يجتهد فيها؟
فكيف بمن وطّن نفسه في مقامات السوء والعصيان، وراح يرتع ويلعب وقد أحاطت به سيئاته؛ فقيدت روحه مع الهمل والبهائم وحشرات الأرض، وغطت قلبه بدرنها وأقذارها حتى صار أسود مرباداً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً؟
كيف لنا جميعاً أن يهدأ لنا بال، ويصفو لنا حال، وأمامنا يوم طويل يجعل الولدان شيباً، حين تنصب محكمة عظمى، الله قاضيها، بينما شهودها خير الخلق أنبياؤه وأصفياؤه؛ بل وشهوداً من أنفسنا {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}؟
فهل أعددنا للسؤال جواباً، وللجواب حجة وبياناً، ونحن الذين ليس منا أحد إلا وقد أصاب ذنباً أو حدثته نفسه به؟ يومها ماذا نقول؟
يوم تجثوا كل أمـــة
في دياجير الملمـــــة
للسؤال عن المهمـــة
هل أجبتم الرسول؟
يوم يأتي الناس وفدا
وعظيم القوم عبــــدا
هل ظننتم فيها خلـدا
وبقاء لا يــــــــــــزول
يومها ماذا نقـــول؟
فيا عباد الله جدّوا فإن الأمر جدّ، وشمّروا فإن السفر بعيد، والزاد قليل. لا يفتننكم الشيطان عن دينكم، ولا تغوينكم الدنيا بزهوها ومتاعها، فإنها والله ظل زائل.
فاجعلوا هذه الحقيقة بين أعينكم وأنتم في سعة ومقدرة على البذل والعطاء في طريق الحق، قبل أن تنجلي فتروها بعين الحقيقة واليقين وقد غرغرت الروح وحان الفراق.
بقلم: أم جليل مهني