يقولُ الدكتور ثائر الحلاق: (وعلى العروس أن تجعل نصف جهازها كُتبًا. لا بُدّ أن توصل رسالة لزوجها ومحيطها أنها صاحبة رسالة).
قيل أنّهُ كان في زمنٍ مضى، لا تُزَفُ العروس إلى بيت زوجها؛ إلا وفي جهازها الكُتب الشرعية النافِعة، فقد ذكر شمس الدين الذهبي -رحمهُ اللّٰه- في كتابه “سير أعلام النبلاء” ضمن ترجمة الإمام إسماعيل بن يحيى المُزني، صاحب الإمام الشافعي -رحمهما الله- أنّ البكر ما كانت تُزف إلا وفي جهازها كتاب “مُختصر المُزني”، وهو من كتب الشافعية الشهيرة. وهذا يدل على شغف النساء بالعلم آنذاك.
وقد حضرتُ مجلسًا للدكتور “لبيب نجيب” قال كلامًا فيما معناه، أنّ المرأة قديمًا كانت تشترطُ وجود “مُختصر المزني” في جهازها؛ وذلك لما فيه من العلم والفائدة، ولشدّة حُب المرأة في أن تتفقّه في أمور دينها.. على عكس فتياتنا اليوم، نجدهنّ يركضن خلف كتب الروايات وبعض كتب النثر التي لا فائدة تجدي منها! فأين نحنُ من نساء السلف الصالح؟ أين نحنُ من كل هذا، وأين كل هذا مما نحنُ فيه؟
يقولُ ابن حَزم -رحمه اللّٰه-: (إذا قرأت المرأة كِتابًا، فكأنما الزوج قرأهُ والأولاد)، وابن حزم هُنا لا يعني بقولهِ: “كتابًا”، أيّ كتاب! لا؛ بل يقصد تلك الكتب التي تكون من الطراز الثقيل، القيّمة، مثل: كتب التفسير والفقه والسيرة، وغيرها من الكتب النافعة والتي من شأنها أن تبنيَ جيلًا عظيمًا يبني الأُمّة الإسلاميّة ويُعيد لها مجدها وعزّها، ويُعيدها إلى سالف عهدها المُزدهر.
وقوله -رحمه اللّٰه-: (إذا قرأت المرأة كِتابًا، فكأنما الزوج قرأهُ والأولاد)، دليلٌ على أنّ الأُمّ هي من تصنعُ الأمّة، فهي مصنع الرجال، فإذا هي وحدها قرأت كتابًا في الفقه مثلًا، فكأنّما قد قرأه زوجها؛ وذلك لما سيظهر جليًا في عباداتها وفعالها فتؤثر إيجابًا عليه مما لو كان غير متفقهًا في الدِّين، لتفقّه منها!
وكأنما قرأه أولادها؛ فذلك لأنها هي من ستنجبهم -بإذن الله- لتُربيهم وتزرع فيهم الأخلاق، وكل تلك القيم والبطولات التي استقتها من كل تلك الكتب التي قد قرأتها وانتفعتْ بها، فيشبّون، وفي قلوبهم علومًا جمّة وخيرات من المعارف المتنوعة، وذلك حسب قراءة الأمّ. فإن قرأتْ بجانب كتب الدين: السيرة والتاريخ، لربّت أبطالًا يذودون عن دينهم كما ذاد الصحابة عنه. ولو قرأتْ كتب التراجم والعلوم، لربّت علماءً يخدمون هذه الأُمّة؛ فَيرفعونها عاليًا بين الأُمّم، ويُعيدون لها حضارتها المندثرة. وهكذا…
إنّ الأطفال عادةً يكونون أكثر تأثُرًا بالأُمّ؛ وذلك لكثرة بقائها معهم معظم الوقت في طفولتهم وحتى يشبّوا؛ ولأنها أيضًا المسؤولة عن تربيتهم وتنشئتهم أكثر من الأب. لذا؛ وجب على كل فتاة أن تبدأ في تهيئة نفسها بصنع شخصية متينة وقوية ذاتيًا، بدايةً بدراستها للعقيدة الصحيحة، وتفقهها جيدًا في أمور دينها، وقراءة معظم كتب السيرة وقصص الأنبياء؛ لتشحذ بذلك همّتها، فلا يكون مرادها إلا أن تصنع رجالًا يُحتذى بهم، رجالًا يسيرون على منوال الرسول الكريم ﷺ، ولا يقتدون إلا بالأنبياء والرسل والصحابة والتابعين والصالحين.
فإن اختارت الفتاة أن يكون هدفها هذا؛ نالت ذلك بإذن اللّٰه، المهم أن تعقد نيتها خالصةً لله تعالى، وأن تبدأ في مشوارها متوكلةً عليه غير متواكلة، فتأخذ بالأسباب وتبذل جهدها في سبيل طلب العلم الشرعي وقراءة ما جادت به نفسها وطابت لها من كتب الدين والفقه والتفسير والسيرة والآداب والتزكية… استعدادًا لمهمّتها الأعظم، وتأهيلًا لنفسها في تحمّل هذه المهمة العظيمة، والصبر في سبيل اللّٰه، وستنال المراد بإذن اللّٰه إن سعت.
وعليها في ذلك أن تقتدي بالصالحات، وأن تقرأ تراجم نساء الصحابة والتابعين والسلف الصالح، لتعرف كيف كانين يُربين أبناءهنَ، وما مصدر هذه التربية المتينة الصلبة الراسخة التي لا تهتز ولا تتزلزل! فلو قرأت في ذلك؛ لوجدت أن مصدر كل هذا كان القراءة! حُب قراءة الكتب الشرعية وغيرها من الكتب المفيدة والنافعة.
وفي ذكر هذا، نستشهدُ بما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في حديثه عن أخته: (وكانت بي برَّة رفيقة مُحسِنة -جزاها الله تعالى عنّي خيرًا-، فلقد انتفعتُ بها وبآدابها مع صغر سنّها، وكانت قارئة كاتبة، أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي، أُصبتُ بها)! سبحان اللّٰه! أرايتِ كم أنّكِ قادرة على التأثير بمن حولكِ فقط لأنكِ قارئة وعارفة بعلوم دينكِ ودنياكِ، وما لكِ وما عليكِ؟ والله هكذا النساء الصالحات حقًا.
لذا؛ انظري جيدًا ما تقرأين أيتّها الغالية، واختاري بعناية تلك الكتب التي ستنهلين منها العلم فترشفين من رحيقها أطيبه وأحلاه. واعلمي أن ما تقرأينه سينعكس على تصرفاتكِ وكلامكِ وأفعالكِ، فكوني نبيهة ودقيقة وانتقائية عندما يتعلق الأمر بالكتب التي ستستقين منها علومكِ ومعارفكِ؛ وذلك لتُربّي نفسك وتهذّبيها وتزكّيها، ثم تُربّين جيلًا بطلًا على علمٍ وبصيرة.
أسِنَّة الضياء, [18/03/2025 17:33]
واستغلي فترة عزوبيتكِ في صناعة ذاتكِ وتربيتها، فهذه الفترة هي المرحلة الذهبية الثمينة التي وصفها الدكتور مصطفى محمود بقوله: (مرحلة العزوبية، ليست مرحلة إصلاح الشعر المُتقصِّف، والبشرة المترهلة فقط، إنما هي أثمن فترة لديكِ لتصنعي عقلًا مُختلفًا وشخصية قادرة على إنتاج جيل حَي نابض بالفلاح، هي أثمن فرصة لتتعلمي فن صناعة الإنسان، وتلملمي شتات شخصِيتكِ وتُرمِّمي عيوبكِ؛ كي لا يُعيد التاريخ التربية الخاطئة نفسها).
وتذكري، إن لم يكن بإمكانكِ تربية نفسكِ؛ فكيف ستُربّين أُمّة؟ عليكِ أن تبدأي بكِ أولًا، فإن نجحتِ، فقد حزتِ الخير الكثير، وقطعتِ شوطًا كبيرًا في مجال التربية الصحيحة. وبهذا، يكون اكتمل نصف مشواركِ في تربية أبنائكِ، فإن نصف تربيتهم تعتمدُ على تربيتكِ نفسكِ، والباقي تربيتهم، وهذه العلاقة -علاقة تربية الأم نفسها وأبناءها- علاقة تكاملية، فإذا ما كان نصف تربيتكِ لنفسكِ، فإنّ نصفها الآخر تربيتكِ لأبنائكِ، والعكس كذلك.. فإن تربية أبنائكِ نصفًا مكمّلًا لتربيتكِ نفسكِ.
والأهم من ذلك، معرفتكِ بأنَّ الأمومة تشريف قبل أن تكون تكليف أمرًا مُهمًّا جدًا، فحاذري أن تُفرِّطي بها لأي سببٍ كان أو يكون، فلا تسبتدليها بالذي هو أدنى منها، فليست بعاقلة مَن تستبدلُ الذي هو أدنى بالذي هو خير.
حافظي على وسام الشرف الذي منحكِ إياه رب الخلائق، واستمسكي بهذه الوظيفة الشريفة التي كرمكِ بها خالق هذا الكون العظيم. فهي والله لأعظم وظيفة كرّمكِ اللّه بها ومنحكِ شرف الحصول عليها. ومن أجلها، ومن أجل الحفاظ عليها، اصنعي ذاتكِ وهذّبي نفسكِ لتستحقينها حقًا وكما يحب عليكِ استحقاقها، ولتكوني أهلًا لها.
وابدأي منذ اللحظة بتأهيلكِ من أجلها، عقلًا وروحًا، قلبًا ونفسًا وجسدًا. واقرئي ثم اقرئي حتى يبلغ بكِ العلم محلّه، فيسمو عقلكِ في علياء النضج والوعي، ويليق بكِ بعدها وسام الأُمومة كما تليقين بهِ أيضًا أيتُها الأم العظيمة.