لي بنت أكملت التعليم الابتدائي. وكانت عادتي في بناتي أن أدخلهن المدرسة الإعدادية، يبقين فيها سنتين أو ثلاثًا، ثم يجيء الخاطب الصالح فأزوجهن.
فنظرت إلى المدارس الإعدادية في دمشق، فإذا المدارس الرسمية أكثر مدرّساتها من السافرات الحاسرات، وأنا قد نشّأت ابنتي على التزام الحجاب الشرعي وعلى اجتناب المحرَّمات الظاهرة.
وفيها هذا السفور الذي يكشف الشعر والنحر وبعض الصدر ويجعل المسلمات في الزيّ كالكافرات، والبنت لا تُكبر أحدًا إكبارها لمعلمتها ولا ترى لها قدوة سواها، ولو أني أمرت بنتي بالحجاب وشددت عليها فيه وذكّرتها به آناء الليل وأطراف النهار، ثم رأت المعلمات سافرات، لذهب كلامي كله هباء.
ووجدت هذه المدارس لا تخلو من مدرّسين من الرجال. وأنا قد عوّدت بنتي ألاّ تلقى أجنبيًا ولا تكلمه، ولا بد لهذا المدرّس من أن يكلمها وتكلمه، فتَهون عليها مخالطة الرجال.
ووجدت البنات فيها -مهما كنّ متحجّبات- إذا دخلن المدرسة ينزعن أكثر حجابهن كأنهنّ صرنَ في دارهنّ، فيرى المدرّس منهن ما لا يجوز أن يرى مثلَه إلا أخٌ أو أب، وما هو بأبٍ لهنّ ولا أخ، ما هو إلا أجنبي لا يحل له -مهما كان علمه وكانت سنّه وكان صلاحه- لا يحق له أن يرى منهن إلا الوجه والكفين، ولا يجوز أن يخلو بإحداهن ولو كانت خلوته بها خلوة كلام.
ثم إن مناهج هذه المدارس على غير ما أريد وعلى غير ما أرى أنه الصواب؛ فهي تعلم البنات مثل علوم الصبيان، مع أن الذي يحتاج هو إليه لا تحتاج إليه هي، وما ينفعه أن يدرسه لا ينفعها هي أن تدرسه، ذلك لأنها خُلقت لغير ما خُلق له، وستشتغل إذا كبرت بغير ما يشتغل هو به،
وهذا التعليم يدفعها -في مُقْبِل أمرها- أن تسلك مسلكه وأن تحاول التحرر من أنوثتها لتشاركه في رجولته، فتدخل مثله دواوين الحكومة وتشتغل مثله في المتاجر، فلا تبقى امرأة كما خلقها الله ولا تصير رجلًا كما أراد لها هؤلاء الناس!
وكنت قد وضعت أخواتها الثلاث قبلها في مدرسة أهلية قالوا إنها إسلامية، وإذا هي لا تختلف عن مدارس الحكومة إلا بأنها بالأجرة وتلك بالمَجّان، والمنهج هو المنهج والكتب هي الكتب، والمدرّسات أكثرهن من السافرات كأخواتهن هناك، وفيها من البلايا والطامّات ما يهدم في نفوس التلاميذ والتلميذات كل ما يبنيه الأبُ الصالح في البيت والخطيبُ المصلح في المسجد!
ومن بعض ما فيها أن كتب التاريخ تعلّم البنات ديانات الأمم الأولى -من المصريين والفنيقيين واليونان والرومان- وما كان لها من عقائد تنافي الوحدانية، وتكلفهن حفظ ذلك واستظهاره قبل أن يعرفن ما التوحيد وما عقائد أهل الإسلام.
ثم إن دخلت البنت المدرسة الثانوية ألزموها أن تلبس السراويل القصار بحجة الرياضة، ثم يأتون لها بالرجل العسكري ليعلّمها أساليب القتال واستعمال السلاح، كأن الشبّان لا يدورون فارغين في الطرقات ولا تمتلئ بهم السينمات، وكأنه لم يبقَ في البلد رجال فوجب القتال على النساء!
ثم زادوا فجعلوا للبنات معسكرًا يَبِتْنَ فيه شهرًا، يَنَمْنَ ويُقمنَ خارج بيوتهن بعيدات عن أهليهن، يشرف عليهن الرجال الأجانب عنهن.ثم إن دخلت البنت الجامعة وجدت من الاختلاط والفساد ما يغني تصوُّره عن تصويره والعلمُ به عن الكلام فيه.
ووجدت أن المجتمع قد فسد كما فسدت المدارس، وإذا لم يصل السفور إلى البنت من زميلات المدرسة وصل إليها من جارات الدار. ووجدت أن البنت إن لم تقرأ الكفر في كتب المدرسة قرأته في المجلات أو سمعته في الإذاعات.
ووجدت الداء يستشري ويزيد، فما كنا نتصوره قبل ثلاثين سنة مستحيلًا، وقبل عشرين سنة بعيدًا، وقبل عشر سنين مُعيبًا، صار هو القاعدة المتَّبَعة وصار هو الأصل الذي يُقاس عليه ويُرجَع إليه.
فماذا أصنع؟ إنها مشكلة، ليست مشكلتي وحدي، بل هي مشكلة كل أب له بنات. فكيف أحفظ على بناتي حجابهن؟ هذا وباء عَمَّ وانتشر، فماذا نصنع له؟ ماذا يصنع الناس في درء الوباء؟
وهذا وباء في الدين، جعلَنا نحن المسلمين كأنّا لسنا بالمسلمين، فالعورات مكشوفة، والمحرَّمات معلَنة، والفرائض متروكة؛ كأننا والله في جاهلية جَهلاء وضلالة عمياء لم يُنزَّل علينا كتاب ولم يُبعَث فينا نبي، بل إن الجاهلية أشرف -أقسم بالله- وأعفّ وأنظف!
وهل كان في الجاهلية بنت تكشف عورتها بعلم الأب وعين الأم ونظر الناس، فلا تسمع مُنكِرًا ولا ترى معترضًا؟ إنه وباء في القلوب والعقائد والأخلاق، فماذا نصنع له؟
– علي الطنطاوي